فصل: تفسير الآيات رقم (149- 150)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 135‏]‏

‏{‏ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

ولما ذكر سبحانه إقامة الحجة على الكافر في المعاد بالرسل عليهم السلام، علل إرسالهم ترغيباً وحثاً في اتباعهم في أيام المهلة بعد ترهيب، وتنبيهاً وإرشاداً في صادع تخويف وتأديب فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الجدوى هو أن أرسلنا الرسل ‏{‏أن‏}‏ أي لأجل أنه ‏{‏لم يكن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بتشريف قومك ‏{‏مهلك‏}‏ أي ثابتاً إهلاكه ‏{‏القرى بظلم‏}‏ أي بسبب ظلم ارتكبوه ‏{‏وأهلها غافلون *‏}‏ أي غريقون في الغفلة عما يجب عليهم مما لا تستقل به عقولهم، أي بما ركب فيهم من الشهوات وغلب عليهم من اللذات، فأوقف عقولهم عن نافذ المعرفة بما يراد بهم، فأرسلنا إليهم الرسل حتى أيقظوهم من رقدتهم وأنبهوهم من غفلتهم، فصار تعذيبهم بعد تكذيبهم هو الحق الواجب والعدل الصائب، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ مهلكهم ظالماً، فيكون المنفي من الظلم كالمنفي في قوله تعالى ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 46‏]‏ وعلى الأول المنفي ظلمهم‏.‏

ولما بيّن سبحانه أن لأحد الفريقين دار السلام، والآخر دار الملام، قال جامعاً للفريقين عاطفاً على قوله ‏{‏لهم دار السلام عند ربهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 127‏]‏‏:‏ ‏{‏ولكل‏}‏ أي عامل من الفريقين صالح أو طالح في قبيلي الجن والإنس في الدارين ‏{‏درجات‏}‏ أي يعليهم الله بها ‏{‏مما‏}‏ أي من أجل ما ‏{‏عملوا‏}‏ ودركات يهويهم فيها كذلك‏.‏

ولما تقدم أنه تعالى لا يهلك المجرمين إلاّ بعد الإعذار إليهم، وتضمن ذلك إمهالهم، وختم أحوالهم بأنهم موضع لثبوت الغفلة ودوامها، نفى أن يسلم شيء من ذلك بجناب عظمته على وجه أثبت له ذلك إحاطة العلم بجميع أعمالهم فقال‏:‏ ‏{‏وما ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإعلاء أوليائك وإسفال أعدائك، وأغرق في النفي لإثبات مزيد العلم فقال‏:‏ ‏{‏بغافل عما يعملون *‏}‏ أي عن شيء يعمله أحد من الفريقين، بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل قادر على جزائه، فلا يقع في وهم أن الإمهال لخفاء الاستحقاق بخفاء الموجب له، فالآية من النصوص في كتابة الصالحين من الجن‏.‏

ولما كان طلب العبادة للائتمار والانتهاء ربما أوهم الحاجة إليها لنفع في الطاعة أو ضرر يلحقه سبحانه من المعصية، وكان الإمهال مع المبارزة ربما ظن أنه عن عجز، قال مرغباً مرهباً‏:‏ ‏{‏وربك‏}‏ أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك، وحصر الخبر في المبتدإ بقوله‏:‏ ‏{‏الغني‏}‏ أي وحده الغني المطلق عن كل عابد وعبادته، فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ أي وحده بلإمهال والإرسال للتنبيه على ما يستحقه من الأعمال؛ وملا كان اختصاصه بالغنى والرحمة فلا رحمة إلا منه ولا غنى إلا عنه، وأنه ما رتب الثواب والعقارب إلا رحمة منه وجوداً، استأنف بيان ذلك، وأخبر عن هذا المبتدإ بوصفيه عند من جعلها وصفين بقوله مصرحاً بما أفاده‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ أي جميعاً بالإهلاك، فلا يقع في ظن أحد منكم أن الإهلاك متوقف على شيء غير مشيئته، ولكنه قضى بإمهالكم إلى آجالكم رحمة لكم وإكراماً لنبيكم صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال تحقيقاً لغناه أيضاً‏:‏ ‏{‏ويستخلف‏}‏‏.‏

ولما كان لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعدكم‏}‏ أي بعد هلاككم ‏{‏ما يشاء‏}‏ أي يبدع غيركم من الخلق من جنسكم أو غير جنسكم كما أبدع أباكم آدم من التراب والتراب من العدم وفرعكم منه ‏{‏كما أنشأكم من ذرية‏}‏ أي نسل ‏{‏قوم آخرين *‏}‏ أي بعد أن أهلكهم أجمعين، وهم أهل السفينة وقد كنتم نطفاً في أصلابهم، لم يكن في واحدة منها حياة‏.‏

ولما تقرر أن له الوصفين الملزومين للقدرة، أنتج ذلك قوله جواباً لاستعجالهم بالعذاب استهزاء‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون‏}‏ أي من البعث وغيره ‏{‏لآت‏}‏ أي لا بد من وقوعه لأن المتوعد لا يبدل القول لديه ولا كفوء له يعارضه فيه ‏{‏وما أنتم بمعجزين *‏}‏ أي بثابت لكم الإتيان بشيء يعجز عنه الخصم، فتمهد الأمر من جهته ومن جهتكم لوجود المقتضي وانتفاء المانع، وفي ذلك تقرير لأمر رحمته لأن القادر إذا اراد النقمة أخذ على غرة ولم يهدد، وإذا أراد الرحمة تقدم بالوعيد ليحذر الفائزون ويستسلم الخاسرون‏.‏

ولما تقرر ذلك من التهديد على إنكار البعث وتحرر، فأنتج الاجتهاد للعاقل- ولا بد- في العمل، وكان أكثر الخلق أحق، أمره سبحانه بالنصيحة بقوله‏:‏ ‏{‏قل يا قوم‏}‏ أي يا أقرب الخلق إليّ وأعزهم عليّ ومن لهم قيام في الأمور وكفاية عند المهمات ‏{‏اعملوا‏}‏ وأشار إلى مزيد القوة بعد التعبير بالقوم بحرف الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏على مكانتكم‏}‏ أي على ما لكم من القدرة على العمل والمكنة قبل أن تأتي الدواهي وتسبقكم القواصم بخفوق الأجل، وفيه مع النصيحة تخويف أشد مما قبله، لأن تهديد الحاضر على لسان الغير مع الإعراض أشد من مواجهته بالتهديد، أي أنكم لم تقبلوا بذلك التهديد الأول كنتم أهلاً للإعراض والبعد‏.‏

ولما كان أدل شيء على النصيحة مبادرة الناصح إلى مباشرة ما نصح به ودعا إليه، قال مستانفاً أو معللاً‏:‏ ‏{‏إني عامل‏}‏ أي على مكانتي وبقدر استطاعتي قبل الفوت بحادث الموت، ويمكن أن يكون متمحضاً للتهديد، فيكون المعنى‏:‏ اعملوا بما أنتم تعملونه الآن من مخالفتي بغاية ما لكم من القوة، إني كذلك أعمل فيما جئت به‏.‏

ولما كان وقوع المتوعد به سبباً للعلم بالعاقبة، وكان السياق لعدم تذكرهم وغرورهم وقلة فطنتهم، حسن إثبات الفاء في قوله‏:‏ دون إسقاطها لأن الاستئناف يتعطف للسؤال فقال‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ أي يقع لكم بوعد لا خلف فيه العلم، فكأنه قيل‏:‏ أيّ علم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏من تكون له‏}‏ كوناً كأنه جبل عليه ‏{‏عاقبة الدار‏}‏ أي بيني وبينكم، وهذا في إثبات الفاء بخلاف ما في قصة شعيب عليه السلام من سورة هود عليه السلام في حذفها؛ ولما كان التقدير جواباً لما تقرر من سؤالهم‏:‏ عاقبة الدار للعامل العدل، استأنف قوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يفلح الظالمون *‏}‏ أي الغريقون في الظلم كائنين من كانوا، فلا يكون لهم عاقبة الدار، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكرُ العاقبة أولاً دليل على حذفها ثانياً، وذكر الظلم ثانياً دليل على حذف العدل أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136- 137‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏136‏)‏ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

ولما تمت هذه الآيات من قبح طريقتهم في إنكار البعث وحسن طريقة الإسلام على هذا الأسلوب البديع والمثال البعيد المنال الرفيع وختمت بحال الظالم، شرع في تفصيل قوله ‏{‏أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ على أسلوب آخر ابتدأه ببيان ظلمهم وجهالاتهم وأباطيلهم تنبيهاً على سخافة عقولهم تنفيراً عنهم بوضعهم الأشياء في غير مواضعها وإخراجها عمن هي له ونسبتها إلى من لا يملك شيئاً وقتل الأولاد وتسييب الأنعام وغير ذلك، فقال عاطفاً على ‏{‏وجعلوا لله شركاء الجن‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏‏:‏ ‏{‏وجعلوا‏}‏ أي المشركون العادلون بربهم الأوثان ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ‏{‏مما ذرأ‏}‏ أي خلق وأنشأ وبث ولم يشركه في خلقه أحد ‏{‏من الحرث والأنعام نصيباً‏}‏ أي وجعلوا لشركائهم نصيباً؛ ولما كان الجعل لا يعرف إلا بالقول، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فقالوا‏}‏ أي بألسنتهم بعد أن قالوا بأفئدتهم ‏{‏هذا لله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏بزعمهم‏}‏ أي ادعائهم الباطل وتصرفهم بكذب ادعائهم التخصيص بالله، ولذا أسقط الزعم من قوله‏:‏ ‏{‏وهذا لشركائنا‏}‏ أي وليس لهم سند في هذه القسمة إلا أهوائهم‏.‏

ولما كان هذا سفهاً بتسويتهم من لا يملك شيئاً بمن يملك كل شيء، بين من فعلهم ما هو أشد سفهاً منه بشرح ما لوح إليه التعبير بالزعم فقال مسبباً عن ذلك ومفرعاً‏:‏ ‏{‏فما كان لشركائهم‏}‏ أي بزعمهم أنهم شركاء ‏{‏فلا يصل إلى الله‏}‏ أي الذي هو المالك مع اتصافه بصفات الجلال والجمال ‏{‏وما كان لله‏}‏ أي على ما له من الكبر والعظمة والجلال والعزة ‏{‏فهو يصل إلى شركائهم‏}‏ فإذا هلك ما سموا لشركائهم أو أجدب وكثر ما لله قالوا‏:‏ ليس لآلهتنا بد من نفقة، فأخذوا ما لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أجدب الذي لله وكثر ما لآلهتهم قالوا‏:‏ لو شاء الله لأزكى الذل له، فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة‏.‏

ولما بلغ هذا غاية السفه قال‏:‏ ‏{‏ساء ما يحكمون *‏}‏ أي حكمهم هذا أسوأ حكم؛ ذكر الإمام أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي في سيرته في وفد خولان أنه كان لهم صنم يسمى عم أنس، وأنهم لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا له أنهم كانوا يجعلون من أنعامهم وحروثهم جزءاً له وجزءاً لله بزعمهم، قالوا‏:‏ كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمي زرعاً آخر حجرة لله عزّ وجلّ، فإذا مالت الريح بالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس، وإذا مالت الريح بالذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجلّ أنزل عليه في ذلك ‏{‏وجعلوا لله‏}‏ الآية، قالوا‏:‏ وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«تلك الشياطين تكلمكم»، قالوا‏:‏ فأصبحنا برسول الله وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع ولا يذري من عبده ممن لم يعبده‏.‏ وقال ابن هشام في مقدمة السيرة إنهم كانوا يقسمون له، فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي سموه له تركوه له، وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، قال‏:‏ وهم بطن من خولان يقال لهم الأديم؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره‏:‏ أخبرنا معمر عن قتادة قال‏:‏ كانوا يعزلون من أموالهم شيئاً فيقولون‏:‏ هذا لله وهذا لأصنامهم، فإن ذهب شيء مما جعلوا لشركائهم يخالط شيئاً مما جعلوه ردوه، وإن ذهب شيء مما جعلوه لله يخالط شيئاً مما جعلوه لشركائهم تركوه، وإن أصابتهم سنة أكلوا مما جعلوا لله وتركوا ما جعلوا لشركائهم، فقال عزّ وجلّ ‏{‏ساء ما يحكمون‏}‏ وقال البغوي‏:‏ كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً، فما جعلوه لله صرفوه للضيفان والمساكين، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها، فإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا‏:‏ إن الله غني عن هذا، وإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان وقالوا‏:‏ إنها محتاجة، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله‏.‏

ولما كان هذا متضمناً لأنهم نقصوا أموالهم بأنفسهم في غير طائل فجعلوها لمن لا يستحقها، نبه تعالى على أن ذلك تزيين من أضلهم من الشياطين من سدنة الأصنام وغيرهم من الإنس ومن الجن المتكلمين من أجواف الأصنام وغيرهم، فقال منبهاً على أنهم زينوا لهم ما هو أبين منه ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم ‏{‏زين لكثير من المشركين‏}‏‏.‏

ولما كان المزين لخسته أهل لأن لا يقبل تزيينه ولا يلتفت إليه، فكان امتثال قوله غريباً، وكان الإقدام على فعل الأمر المزين أشد غرابة، قدمه تنبيهاً على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏قتل أولادهم‏}‏ أي بالوأد خشية الإملاق والنحر لآلهتهم، وشتان بين من يوجد لهم الولد ويرزقه والرزق ويخلقه وبين من لا يكون إلا سبباً في إعدامه؛ ولما كان في هذا غاية الغرابة تشوفت النفس إلى فاعل التزيين فقال‏:‏ ‏{‏شركاؤهم‏}‏ أي وهم أقل منهم بما يخاطبون به من أجواف الأصنام وبما يحسن لهم السدنة والأهوية بسبب الأصنام‏.‏

ولما كان هذا أمراً معجباً، كان الأمر في قراءة ابن عامرالمولود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم المشمول ببركة ذلك العصر الآخذ عن جلة من الصحابة الموصوف بغزارة العلم ومتانة الدين وقوة الحفظ والضبط وحجة النقل في إسناد الفعل إلى الشركاء بإضافة المصدر إلى فاعله أعجب، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول- وهو الأولاد- لأن وقوع القتل فيهم كما تقدم أعجب‏.‏

ولما كان ذلك ربما كان لفائدة استهين لها هذا الفعل العظيم، ذكر أنه ليس له فائدة إلا الهلاك في الدنيا والدين الذي هو هلاك في الآخرة ليكون ذلك أعجب فقال‏:‏ ‏{‏ليردوهم‏}‏ أي ليهلكوهم هلاكاً لا فائدة فيه بوجه ‏{‏وليلبسوا‏}‏ أي يخلطوا ويشبهوا ‏{‏عليهم دينهم‏}‏ أي وهو دين إبراهيم الذي أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فما أقدم عليه إلاّ بأمر الله ثم إنه فداه ولم يمض ذبحه، فخالف هؤلاء عن أمر الشركاء الأمرين معاً فجمعوا لهم بذلك بين إهلاكين‏:‏ في النفس والدين، فان القتل في نفسه عظيم جداً، ووقوعه تديناً بغير أصل ولا شبهة أعظم، فلا أضل ممن تبع من كان سبباً لإهلاك نفسه ودينه‏.‏

ولما كان العرب يدعون الأذهان الثاقبة والأفكار الصافية والآراء الصائبة والعقول الوافرة النافذة، ذكر لهم ذلك على سبيل التعليل استهزاء بهم، يعني أنهم فعلوا ذلك لهذه العلة فلم يفطنوا بهم ولم يدركوا ما أرادوا بكم مع أنهم حجارة، فأنتم أسفل منهم؛ ولما أثبت للشركاء فعلاً هو التزيين، وكان قد نفي سابقاً عنهم وعن سائر أعداء الأنبياء الاستقلال به، وأناط الأمر هناك- لأن السياق للأعداء- بصفة الربوبية المقتضية للحياطة والعناية، وكان الكلام هنا في خصوص الشركاء، علق الأمر باسم الذات الدال على الكمال المقتضي للعظمة والجبروت والكبر وسائر الأسماء الحسنى على وجه الإحاطة الجلال فقال‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ أي بما له من العظمة والإحاطة بجميع أوصاف الكمال المقتضية للعلو عن الأنداد والتنزه عن الشركاء والأولاد أن لا يفعله المشركون ‏{‏ما فعلوه‏}‏ أي ذلك الذي زين لهم، بل ذلك إنما هو بإرادته ومشيئه احتراساً من ظن أنهم يقدرون على شيء استقلالاً، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً، وأكد التسلية بقوله‏:‏ ‏{‏فذرهم وما يفترون *‏}‏ أي يتقولون من الكذب ويتعمدونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 139‏]‏

‏{‏وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏‏}‏

ولما ذكر إقدامهم على ما قبحه الشرع، ولامه على تقبيحه العقلُ من قتل الأولاد، أتبعه إحجامهم عما حسنه الشرع من ذبح بعض الأنعام لنفعهم، وضم إليه جملة مما منعوا أنفسهم منه ودانوا به لمجرد أهوائهم فقال‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي المشركون سفهاً وجهلاً ‏{‏هذه‏}‏ إشارة إلى قطعة من أموالهم عينوها لآلهتهم ‏{‏أنعام وحرث حجر‏}‏ أي حرام محجور عليه فلا يصل أحد إليه، وهو وصف يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ‏{‏لا يطعمها‏}‏ أي يأكل منها ‏{‏إلا من نشاء‏}‏ أي من السدنة ونحوهم ‏{‏بزعمهم‏}‏ أي بتقولهم بمجرد الهوى من غير سند عن الله الذي له ملكوت السماوات والأرض، وهم كاذبون في هذا الزعم في أصل التحريم وفي نفوذ المنع، فلو أراد الله أن تؤكل لأكلت ولم يقدروا على منع ‏{‏وأنعام‏}‏‏.‏

ولما كان ذمهم على مجرد التجريم لا على كونه من معين، بني للمجهول قوله‏:‏ ‏{‏حرمت ظهورها‏}‏ يعني البحائر وما معها فلا تركب ‏{‏وأنعام لا يذكرون‏}‏ أي هؤلاء المتقولون على الله ‏{‏اسم الله‏}‏ الذي حاز جميع العظمة ‏{‏عليها‏}‏ أي في الذبح أو غيره ‏{‏افتراء‏}‏ أي تعمداً للكذب ‏{‏عليه‏}‏‏.‏

ولما كان هذا لعظمه من جهة أنه تعمد للكذب على ملك الملوك موضع تشوف السامع إلى ما يكون عنه، استأنف قوله‏:‏ ‏{‏سيجزيهم‏}‏ أي بوعد صادق لا خلف فيه ‏{‏بما‏}‏ أي بسبب ما ‏{‏كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يفترون *‏}‏ أي يتعمدون من الكذب، أما بعد إظهار الحق فواضح، وأما قبله فلكونه في غاية ما يكون من ظهور الفساد‏.‏ ولما ذكر من سفههم ما فيه إقدام محض وما فيه إحجام خالص محت، أتبعه ما هو مختلط منهما فقال‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي المشركون أو بعضهم وأقره الباقون ‏{‏ما في بطون هذه‏}‏ إشارة إلى ما اقتطعوه لآلهتهم، وبينوه بقولهم‏:‏ ‏{‏الأنعام‏}‏ أي من الأجنة ‏{‏خالصة‏}‏ أي خلوصاً لا شوب فيه، أنث للحمل على معنى الأجنة، أو تكون التاء للمبالغة أو تكون مصدراً كالعافية، أي ذو خالصة ‏{‏لذكورنا‏}‏؛ ولما كان المراد العراقة في كل صفة، أتى بالواو فقال‏:‏ ‏{‏ومحرم‏}‏ وحذف الهاء إما حملاً على اللفظ أو تحقيقاً لأن المراد ب «خالصة» المبالغة ‏{‏على أزواجنا‏}‏ أي إناثنا، وكأنه عبر بالأزواج بياناً لموضع السفه بكونهن شقائق الرجال، هذا إن ولد حياً ‏{‏وإن يكن‏}‏ أي ما في بطونها ‏{‏ميتة‏}‏ وكأنه أثبت هاء التأنيث مبالغة، وأنث الفعل أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر عن عاصم حملاً على معنى «ما» ورفع الاسم على التمام ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر، وذكر ابن كثير لأن التأنيث غير حقيقي، ونصب الباقون على جعلها ناقصة مع التذكير حملاً على لفظ «ما» ‏{‏فهم‏}‏ أي ذكورهم وإناثهم ‏{‏فيه‏}‏ أي ذلك الكائن الذي في البطون ‏{‏شركاء‏}‏ أي على حد سواء‏.‏

ولما كان ذلك كله وصفاً منهم للأشياء في غير مواضعها التي يحبها الله قال‏:‏ ‏{‏سيجزيهم وصفهم‏}‏ أي بأن يضع العذاب الأليم في كل موضع يكرهون وصفه فيه، حتى يكون مثل وصفهم الذي لم يزالوا يتابعون الهوى فيه حتى صار خلقاً لهم ثابتاً فهو يريهم وخيم أثره، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه حكيم‏}‏ أي لا يجازى على الشيء إلا بمثله ويضعه في أحق مواضعه وأعدلها ‏{‏عليم *‏}‏ أي بالمماثلة ومن يستحقها وعلى أيّ وجه يفعل، وعلى أيّ كيفية يكون أتم وأكمل، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن هذه الأشياء في غاية البعد عن الحكمة، فهو متعال عن أن يكون شرعها وهي سفه محض لا يفعلها إلاّ ظالم جاهل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140- 141‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

ولما ذكر تعالى تفاصيل سفههم، وأشار إلى معانيها، جمعها- وصرح بما أثمرته من الخيبة- في سبع خلال كل واحدة منها سبب تام في حصول الندم فقال‏:‏ ‏{‏قد خسر‏}‏ وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏الذين قتلوا‏}‏ قرأها ابن عامر وابن كثير بالتشديد لإرادة التكثير والباقون بالتخفيف ‏{‏أولادهم سفهاً‏}‏ أي خفة إلى الفعل المذموم وطيشاً، تؤزهم الشياطين الذين يتكلمون على ألسنة الأصنام أو سدنتها إلى ذلك أزاً‏.‏

ولما كان السفه منافياً لرزانة العلم الذي لا يكون الفعل الناشئ عنه إلا عن تأن وتدبر وتفكر وتبصر، قال مصرحاً بما أفهمه‏:‏ ‏{‏بغير علم‏}‏ أي وأما من قتل ولده بعلم- كما إذا كان كافراً أو قاتلاً أو محصناً زانياً- فليس حكمه كذلك؛ ولما ذكر عظيم ما أقدموا عليه، ذكر جليل ما أحجموا عنه فقال‏:‏ ‏{‏وحرموا ما رزقهم الله‏}‏ أي الذي لا ملك سواه رحمة لهم، من تلك الأنعام والغلات، بغير شرع ولا نفع بوجه ‏{‏افتراء‏}‏ أي تعمداً للكذب ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة‏.‏

ولما كانوا قد خسروا ثلاث خسرات مع ادعائهم غاية البصر بالتجارات‏:‏ النفس بقتل الأولاد، والمال بتحريم ما رزقهم الله، فأفادهم ذلك خسارة الدين، كانت نتيجته قوله‏:‏ ‏{‏قد ضلوا‏}‏ أي جاوزوا وحادوا عن الحق وجاروا؛ ولما كان الضال قد تكون ضلالته فلتة عارضة له، وتكون الهداية وصفاً أصيلاً فيه، نبه على أن الضلال وصفهم الثابت بقوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا‏}‏ أي في شيء من هذا من خلق من الأخلاق ‏{‏مهتدين *‏}‏ أي لم يكن في كونهم وصف الهداية، بل زادوا بذلك ضلالاً؛ قال البخاري في المناقب من صحيحه‏:‏ حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام ‏{‏قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً‏}‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا مهتدين‏}‏‏.‏ وله في وفد بني حنيفة من المغازي عن مهدي بن ميمون قال‏:‏ سمعت أبا رجاء العطاردي يقول‏:‏ كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه فأخذنا الآخر، وإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا‏:‏ منصل الأسنة، فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه شهر رجب‏.‏

ولما كان مدار القرآن على تقرير التوحيد والنبوة وتوابعها والمعاد والقضاء والقدر والفعل بالاختيار، وأتقن تقرير هذه الأصول لا سيما في هذه السورة، وانتهى إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، وعجب سبحانه ممن أشرك وأنكر البعث وفعل أفعال المشركين تعجيباً بعد تعجيب، وهجن طريقتهم ووبخهم توبيخاً في إثر توبيخ بتكذيبهم للداعي من غير حجة، وحكى أقوالهم الباطلة ودعاويهم الفاسدة مع ادعائهم أنهم أنصف الناس، ومخالفتهم للهادي بغير ثبت ولا بينة مع ادعائهم أنهم أبصر الناس، وبطلبهم للآيات تعنتاً مع ادعائهم أنهم أعقل الناس، وإخلاصهم في الشدة وإشراكهم في الرخاء مع ادعائهم أنهم أشكر الناس، وعبادتهم للجن وتعوذهم بهم مع ادعائهم أنهم أشجع الناس- إلى أن عجب منهم فيما شرعوه لأنفسهم فيما رزقهموه سبحانه من حيوان وجماد ومضوا عليه خلفاً عن سلف، تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة علومهم تنفيراً للناس عن الالتفات إليهم واغترار بأقوالهم، قال في موضع الحال من

‏{‏وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏ مبيناً عظيم ملكه وشمول قدرته وباهر اختياره وعظمته، زيادة في التعجيب منهم في تصرفهم في ملكه بغير إذنه سبحانه وشرعهم ما لم يأذن فيه في سياق كافل بإقامة الحجة على تقرير التوحيد عوداً على بدء وعللاً بعد نهل، لأنه المدار الأعظم والأصل الأقوم‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الذي أنشأ‏}‏ أي من العدم ‏{‏جنات‏}‏ أي من العنب وغيره ‏{‏معروشات‏}‏ أي مرفوعات عن الأرض على الخشب ونحوه، أي لا تصلح إلا معروشة، ومتى لم ترفع عن الأرض تلف ثمرها ‏{‏وغير معروشات‏}‏ أي غير مرفوعات على الخشب، أي لا تصلح إلا مطروحة على الأرض مثقلة بما يحكم وصولها إليها، ومتى ارتفعت عن الأرض تلفت، فما ذلك لطبيعة ولا غيرها وإلاّ لاستوت الجنات كلها لأن نسبتها إلى السماء والأرض واحدة، فما اختلف إلا بفاعل مختار واحد لا شريك له، لا يكون إلا ما يريد‏.‏

ولما ذكر الجنات الجامعة، خص أفضلها وأدلها على الفعل بالاختيار، وبدأ بأشهرها عند المخاطبين بهذه الآيات فقال‏:‏ ‏{‏والنخل‏}‏ أي وأنشأ النخل ‏{‏والزرع‏}‏ حال كونه ‏{‏مختلفاً أكله‏}‏ أي أكل أحد النوعين، وهو ثمره الذي يؤكل بالنسبة إلى الآخر، وأكل كل نوع بالنسبة إلى الأشجار وغيرها في الحمل والطعم وغيره، بل ويوجد في العذق الواحد الاختلاف، وأما اختلاف مقداره بكون هذا في غاية الطول وهذا في غاية القصر فأمر واضح جداً ‏{‏والزيتون والرمان‏}‏‏.‏

ولما كان معظم القصد في هذا السياق نفي الشريك وإثبات الفعل بالاختيار، لم يدع الحال إلى ذكر كمال الشبه فاكتفى بأصل الفعل فقيل‏:‏ ‏{‏متشابهاً‏}‏ أي كذلك ‏{‏وغير متشابه‏}‏ أي في اللون والطعم والفساد وعدمه والتفكه والاقتيات والدهن والماء- إلى غير ذلك من أحوال وكيفيات لا يحيط بها حق الإحاطة إلا بارئها سبحانه وعز شأنه، ولعله جمع الأولين لأن كلاًّ منهما يدخر للاقتيات ولا يسرع فساده مع المفارقة في الشكل، والاختلاف في النوع بالشجر والنجم، والتفاوت العظيم في المقدار، والأخيرين لأن الأول لا يفسد بوجه، والثاني يسرع فساده، ويدخر كل منهما على غير الهيئة التي يدخر عليها الآخر مع كونهما من الأشجار وتقاربهما في المقدار وتفاوت ثمرتهما في الشكل والقدر وغير ذلك‏.‏

ولما كان قوله ‏{‏وهو الذي أنزل من السماء ماء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏ في سياق الاستدلال على أنه لا فاعل إلا الله، أمر فيه بالنظر إلى الثمر والينع ليعتبر بحالهما، وكانت هذه الآية في سياق التعنيف لمن حرم ما رزقه الله والأمر بالأكل من حلال ما أنعم به والنهي عن تركه تديناً فقال تعالى هنا‏:‏ ‏{‏كلوا‏}‏ وقدم الأولى المستدل بها على وجود البارئ وتفرده بالأمر لأن اعتقاد ذلك سعادة روحانية أبدية؛ وقال أبو حيان في النهر‏:‏ لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب، قال ‏{‏انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏ إشارة إلى الإيجاد أولاً وإلى غايته، وهنا لما كان في معرض الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال‏:‏ كلوا، ودل على أن الرزق أكثر من خلقه بقوله‏:‏ ‏{‏من ثمره‏}‏، ولما كان هذا الأمر للإباحة لا للارادة، قيده لئلا يقتضي إيجاد الثمر في كل جنة في كل وقت فقال‏:‏ ‏{‏إذا أثمر‏}‏ فحصل بمجموعها الحياة الأبدية والحياة الدنياوية السريعة الانقضاء وتقدم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب‏.‏ انتهى‏.‏ وعبر ب «إذا» دون «إن» تحقيقاً لرجاء الناس في الخصب وتسكيناً لآمالهم رحمة لهم ورفقاً بهم إعلاماً أنه إن وقع جدب كان في ناحية دون أخرى وفي نوع دون آخر، وإباحة للأكل في جميع أحوال الثمرة نضيجة وغير نضيجة‏.‏

ولما كان في الآيات الحاكية مذاهب الكفار تقبيح أن يجعلوا شيئاً من أموالهم لأحد بأهوائهم، أشار هنا إلى أنه فرض فيها حقاً وجعل له مصارف بقوله‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه‏}‏ ولما أباح سبحانه أكله ابتداء وانتهاء، بين أنه خفف عنهم الوجوب قبل الانتهاء فقال‏:‏ ‏{‏يوم حصاده‏}‏ أي قطعه جذاذاً كان أو حصاداً، فكذلك أول وقت نصاب الأمر وهو موسع، والحق أعم من الواجب والمندوب، فإن أريد الندب عم الأنواع الخمسة الماضية‏:‏ العنب المشار إليه بالعرش وما بعده، وإن أريد الوجوب فقد أشير بالتعبير بالحصاد إلى أن الأصل في ذلك الحبوب المقتاتة، وأما غيرها فتابع علمه ببيان النبي صلى الله عليه وسلم فيطلق عليه الحصاد مجازاً‏.‏

ولما أمر الله بالأكل من ثمره وبإيتاء حقه، نهى عن مجاوزة الحد في البسط أو القبض فقال‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ وهذا النهي يتضمن أفراد الإسراف، فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى شيء منها للزكاة، والإسراف في الصدقة حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئاً، ويؤيده ‏{‏وكلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، ‏{‏ولا تبسطها كل البسط‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏، ثم علله بقوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المسرفين *‏}‏ أي لا يعاملهم معاملة المحب فلا يكرمهم، وقيل لحاتم الطائي‏:‏ لا خير في السرف فقال‏:‏ ولا سرف في الخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 144‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏142‏)‏ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

ولما كان السياق للمآكل من الحرث والأنعام من حلال وحرام، وفرغ من تقرير أمر الحرث الذي قدم في الجملة الأولى لأنه مادة الحيوان، قال‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي وأنشأ من ‏{‏الأنعام حمولة‏}‏ أي ما يحمل الأثقال ‏{‏وفرشاً‏}‏ أي وما يفرش للذبح أو للتوليد، ويعمل من وبره وشعره فرش؛ ولما استوفى القسمين أمر بالأكل من ذلك كله على وجه يشمل غيره مخالفة للكفار فقال‏:‏ ‏{‏كلوا مما رزقكم الله‏}‏ أي لأنه الملك الأعظم الذي لا يسوغ رد عطيته ‏{‏ولا تتبعوا‏}‏ ولعله شدد إشارة إلى العفو عن صغيرة إذا ذكّر الإنسان فيها رجع ولم يعتد في هواه ‏{‏خطوات الشيطان‏}‏ أي طريقه في التحليل والتحريم كما قال في البقرة ‏{‏كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 168‏]‏ وعبر بذلك لأنه- مع كونه من مادة الخطيئة دال على أن شرائعه شريعة الأندراس، لولا مزيد الاعتناء من الفسقة بالتتبع في كل خطوة حال تأثيرها لبادر إليها المحو لبطلانها في نفسها، فلا أمر من الله يحييها ولا كتاب يبقيها، وإنما أسقط هنا ‏{‏حلالاً طيباً‏}‏ لبيانه سابقاً في قوله ‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 118‏]‏، ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏، ولاحقاً في قوله ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏؛ ثم علل نهيه عن اتباعه فقال‏:‏ ‏{‏إنه لكم عدو‏}‏ أي فهو لذلك لا يأمركم بخير ‏{‏مبين *‏}‏ أي ظاهر العداوة لأن أمره مع أبيكم شهير‏.‏

ولما رد دين المشركين وأثبت دينه، وكانوا قد فصلوا الحرمة بالنسبة إلى ذكور الآدمي وإناثه، ألزمهم تفصيلها بالنسبة إلى ذكور الأنعام وإناثه، ففصل أمرها في أسلوب أبان فيها أن فعلهم رث القوى هلهل النسيج بعيد من قانون الحكمة، فهو موضع للاستهزاء وأهل للتهكم، فقال بياناً ل ‏{‏حمولة وفرشاً‏}‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ أي أصناف، لا يكمل صنف منها إلا بالآخر، أنشأها بزواج كل من الذكر والأنثى الآخر، ولحق بتسميتهم الفرد بالزوج- بشرط أن يكون آخر من جنسه- تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر‏.‏

ولما كان الزوج يطلق على الاثنين وعلى ما معه آخر من نوعه، قال مبيناً أن هذا هو المراد لا الاثنان مفصلاً لهذه الثمانية‏:‏ ‏{‏من الضأن‏}‏ جمع ضائن وضائنة كصاحب وصحب ‏{‏اثنين‏}‏ أي ذكراً وأنثى كبشاً ونعجة ‏{‏ومن المعز‏}‏ جمع ماعز وماعزة كخادم وخدم في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر، وتاجر وتجر في قراءة غيرهم ‏{‏اثنين‏}‏ أي زوجين ذكراً وأنثى تيساً وعنزاً‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما المراد بهذا التفصيل قبل سؤالهم عن دينهم، قال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهم مستفهماً؛ ولما كان هذا الاستفهام بمعنى التوبيخ والتهكم والإنكار، أتى فيه ب «ام» التي هي مع الهمزة قبلها بمعنى «أيّ» ليتفهم بها عما يعلم ثبوت بعضه وإنما يطلب تعيينه، فقال معترضاً بين المعدودات تأكيداً للتوبيخ، لأن الاعتراضات لا تساق إلاّ للتأكيد‏:‏ ‏{‏ءآلذكرين‏}‏‏.‏

ولما كان المستفهم عنه بنصبه ما بعده لا ما قبله، قال‏:‏ ‏{‏حرم‏}‏ أي الله، فإن كان كذلك لزمكم تحريم جميع الذكور ‏{‏أم الأنثيين‏}‏ ليلزمكم تحريم جميع الإناث، واستوعب جميع ما يفرض من سائر الأقسام في قوله‏:‏ ‏{‏أما‏}‏ أي أم حرم ما ‏{‏اشتملت‏}‏ أي انضمت ‏{‏عليه‏}‏ وحملته ‏{‏أرحام الأنثيين‏}‏ أي من الذكور والإناث، ومتى كان كذلك لزمكم تحريم الكل فلم تلزموا شيئاً مما أوجبه هذا التقسيم فلم تمشوا على نظام‏.‏

ولما علم أنه لا نظام لهم فعلم أنهم جديرون بالتوبيخ، زاد في توبيخهم فقال‏:‏ ‏{‏نبئوني‏}‏ أي أخبروني عما حرم الله من هذا إخباراً جليلاً عظيماً؛ ولما كان هذا الإخبار الموصوف لا يكون بشيء فيه شك، قال‏:‏ ‏{‏بعلم‏}‏ أي أمر معلوم من جهة الله لا مطعن فيه ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أي إن كان لكم هذا الوصف‏.‏

ولما فصل الغنم إلى ضان ومعز، أغنى ذلك عن تنويع الإبل إلى العراب والبخت والبقر إلى العراب والجواميس،- ولأن هذه يتناتج بعضها من بعض بخلاف الغنم فإنها لا يطرق أحد نوعيها الآخر- نقله الشيخ بدر الدين الزركشي في كتاب الوصايا من شرح المنهاج عن كتاب الأعداد لابن سراقة فقال‏:‏ ‏{‏ومن الإبل اثنين‏}‏ أي ذكراً وأنثى ‏{‏ومن البقر اثنين‏}‏ أي كذلك ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الذين اختلقوا جهلاً وسفهاً ما تقدم عنهم ‏{‏ءآلذكرين‏}‏ أي من هذين النوعين ‏{‏حرم‏}‏ أي حرمهما الله ‏{‏أم الأنثيين‏}‏ أي حرمهما ‏{‏أما‏}‏ أي الذي ‏{‏اشتملت عليه‏}‏ أي ذلك المحرم على زعمكم ‏{‏أرحام الأنثيين‏}‏ أي حرمهما الله‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ أجاءكم هذا عن الله الذي لا حكم لغيره على لسان نبي‏؟‏ عادله توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهدآء‏}‏ أي حاضرين ‏{‏إذ وصاكم الله‏}‏ أي الذي لا ملك غيره فلا حكم لسواه ‏{‏بهذا‏}‏ أي كما جزمتم عليه به، أو جزمتم بالحرمة فيما حرمتموه والحل فيما أحللتموه، ولا محرم ولا محلل غير الله، فكنتم بذلك ناسبين الحكم إليه؛ ولما كان التقدير كما أنتجه السياق‏:‏ لقد كذبتم على الله حيث نسبتم إليه ما لم تأخذوه عنه لا بواسطة ولا بغير واسطة، سبب عنه قوله معمماً ليعلم أن هذا إذا كان في التحريم والتحليل كان الكذب في أصول الدين أشد‏:‏ ‏{‏فمن أظلم‏}‏ ووضع موضع «منكم» قوله معمماً ومعلقاً للحكم بالوصف‏:‏ ‏{‏ممن افترى‏}‏ أي تعمد ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه لأنه ملك الملوك ‏{‏كذباً‏}‏ كعمرو بن لحي الذي غير شريعة إبراهيم عليه السلام، وكل من فعل مثل فعله‏.‏

ولما كان يلزم من شرعهم لهذه الأمور إضلال من تبعهم فيها عن الصراط السوي، وكانوا يدعون أنهم أفطن الناس وأعرفهم بدقائق الأمور في بداياتها ونهاياتها وما يلزم عنها، جعل غاية فعلهم مقصوداً لهم تهكماً بهم فقال‏:‏ ‏{‏ليضل الناس‏}‏ ولما كان الضلال قد يقع من العالم الهادي خطأ، قال‏:‏ ‏{‏بغير علم‏}‏‏.‏

ولما كان هذا محل عجب ممن يفعل هذا، كشفه سبحانه بقوله استئنافاً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ وهو الذي لا حكم لأحد سواه لا يهديهم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً بما هو أعم من وصفهم ليكون الحكم عليهم بطريق الأولى فقال‏:‏ ‏{‏لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها فكيف بالأظلمين‏!‏ وما أحسن هذا الختم لأحكامهم وأنسبه لما بناها عليه من قوله ‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 21‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

ولما تضمن قوله افتراء عليه افتراء على الله والتعبير في ذلك كله بالاسم الأعظم أن كون التحريم ليس إلاّ من الله أمر معلوم ليس موضعاً للشك لأنه الملك الأعظم ولا حكم لغير الملك، ومن حكم عن غير أمره عذب؛ حسن بعد إبطال دينهم والبيان لأن من حرم شيئاً بالتشهي مضل وظالم قولُه مبيناً البيان الصحيح لما يحل ويحرم جواباً لمن يقول‏:‏ فما الذي حرمه سبحانه وما الذي أحله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ معلماً بأن التحريم لا يثبت إلاّ بوحي من الله ‏{‏لآ أجد‏}‏ أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان، فإن «لا» كلمة لا تدخل على مضارع إلاّ وهو بمعنى الاستقبال ‏{‏في مآ‏}‏‏.‏

ولما كان ما آتاه صلى الله عليه وسلم قد ثبت بعجزهم عن معارضته أنه من الله، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أوحي إليّ‏}‏ أي من القرآن والسنة شيئاً مما تقدم مما حرمتموه مطلقاً أو على حال دون حال وعلى ناس دون آخرين طعاماً ‏{‏محرماً على طاعم‏}‏ أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى ‏{‏يطعمه‏}‏ أي يتناوله أكلاً وشرباً أو دواء أو غير ذلك ‏{‏إلا أن يكون‏}‏ أي ذلك الطعام ‏{‏ميتة‏}‏ أي شرعاً، والميتة الشرعية هي ما لا يقبل التذكية، وهو كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية ‏{‏أو دماً مسفوحاً‏}‏ أي مراقاً من شأنه السيلان لا من شأنه الجمود كالكبد والطحال‏.‏

ولما كان النصارى قد اتخذوا أكل الخنزير ديناً، نص عليه وإن كان داخلاً في قوله «ميتة» على ما قررته في المراد بها، وقال‏:‏ ‏{‏أو لحمِ خنزير‏}‏ ليفيد تحريمه على كل حال سواء ذبح أم لا، ولو قيل‏:‏ أو خنزيراً لاحتمل أن يراد تحريم ما أخذ منه حياً فقط، وقال‏:‏ ‏{‏فإنه‏}‏ أي الخنزير ‏{‏رجس‏}‏ ليفيد نجاسة عينه وهو حي، فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى، وكل ما وافقه في هذه العلة كان نجساً، لا يعاد الضمير على اللحم لأنه قد علمت نجاسته من تحريمه لعينه، فلو عاد عليه كان تكراراً‏.‏

ولما ذكر المحرم لعينه ذكر المحرم لعارض، فقال مبالغاً في النفي عنه بأن جعله نفس المعنى الذي وقع النهي لأجله‏:‏ ‏{‏أو فسقاً‏}‏ أي أو كان الطعام خروجاً مما ينبغي القرار فيه من فسيح جناب الله الذي من توطنه أمن واهتدى وسلم من ضيق الهوى في ذكر الغير الذي من خرج إليه خاف وضل، وهلك وتوى؛ ثم قال مفسراً له مقدماً لما هو داخل في الفسق من الالتفات إلى الغير‏:‏ ‏{‏أهل لغير الله‏}‏ أي الذي له كل شيء لأن له الكمال كله ‏{‏به‏}‏ أي ذكر غير اسمه عليه بأن ذبح له تديناً؛ ثم ذكر لطفه بهذه الأمة في إباحته لهم في حال الضرورة كل محرم رحمة منه لهم وستراً لتقصيرهم فقال‏:‏ ‏{‏فمن اضطر‏}‏ أي حصل له جوع خشي منه التلف، وبني للمفعول لأن المعتبر حصول الاضطرار لا كونه من معين، ومن التعبير بذلك تؤخذ حرمة ما زاد على سد الرمق لأنه حينئذٍ لا يكون مضطراً ‏{‏غير باغ‏}‏ أي على غيره بمكيدة ‏{‏ولا عاد‏}‏ أي على غيره بقوته ولا متجاوز سد الضرورة ‏{‏فإن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإرسالك وإلى أمتك الضعيفة بجعل دينها الحنيفية السمحة ‏{‏غفور‏}‏ أي يمحو الذنب إذا أراد ‏{‏رحيم‏}‏ أي يكرم المذنب بعد الغفران بأنواع الكرامات، فهو جدير بأن يمحو عن هذا المضطر أثر تلك الحرمة التي كدرها ويكرمه بأن يجعل له- في حفظه بذلك لنفسه إذا صحت فيه نيته- أجراً عظيماً، وقد تكلفت الآية على وجازتها بجميع المحرمات من المأكولات مع الإشارة بلفظ الرجس والفسق إلى جميع أصناف المحرمات وإلى أن ارتكابها موجب للخبث والانسلاخ من الخير، وذلك هو سبب تحريمها؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة‏:‏ وجه إنزال هذا الحرف- أي حرف الحرام- طهرة الخلق من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم، فما اجتمعت فيه كان أشد تحريماً وما وجد فيه شيء منها كان تحريمه بحسب تأكد الضرورة إلى طهرته، وكما اختلف أحوال بني آدم بحسب اختلاف طينتهم من بين خبيث وطيب وما بين ذلك، اختلف أحوالهم فيما به تجدد خلقهم من رزقهم، فمن اغتذى بدنه من شيء ظهرت أخلاق نفس ذلك المغتذى به وأوصافه في نفسه، ورين على القلب أو صفاء، لتقويه بما يسمى عليه من ذكر الله أو كفر به بذكر غيره، وجامع منزله على حده من استثناء قليله من متسع الحلال قوله تعالى

‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ هذا لمضرته بالبدن ‏{‏أو لحم خنزير‏}‏ وهذا لتخبيثه للنفس وترجيسه لها كما قال تعالى ‏{‏فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به‏}‏ وهذا لرينه على القلب، وهذه الآية مدنية وأثبتها تعالى في سورة مكية إشعاراً بأن التحريم كان مستحقاً في أول الدين ولكن أخر إلى حين اجتماع جمة الإسلام بالمدينة تأليفاً لقلوب المشركين وتيسيراً على ضعفاء الدين الذين آمنوا واكتفاء للمؤمنين بتنزههم عن ذلك وعما يشبهه استبصاراً منهم حتى أن الصديق رضي الله عنه كان قد حرم الخمر على نفسه في زمن الجاهلية لما رأى فيها من نزف العقل، فكيف بأحوالهم بعد الإسلام‏!‏ وألحق بها في سورة ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ ما كان قتله سطوة من غير ذكر الله عليه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما أدرك بالتذكية المنهرة للدم الموصل في التحريم لفساد مسفوحه بما هو خارج عن حد الطعام في الابتداء والأعضاء في الانتهاء المستدركة ببركة التسمية أثر ما أصابها من مفاجأة السطوة، وألحق بها أيضاً في هذه السورة تحريم الخمر لرجسها كالخنزير كما ألحقت المقتولة بالميتة، وكما حرم الله ما فيه جماع الرجس من الخنزير وجماع الإثم من الخمر حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه حظ من ذلك، فألحق بالخنزير السباع حماية من سورة غضبها لشدة المضرة في ظهور الغضب من العبيد لأنه لا يصلح إلاّ لسيدهم، وحرم الحمر الأهلية حماية من بلادتها وحرانها الذي هو علم غريزة الخرق في الخلق، وألحق صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر التي سكرها مطبوع تحريمَ المسكر الذي سكره مصنوع، وكما حرم الله ما يغر العبد في ظاهره وباطنه حرم عليه فيما بينه وبينه ما يقطعه عنه من أكل الربا، والربا بضع وسبعون باباً والشرك مثل ذلك، وجامع منزله في قوله تعالى ‏{‏الذين يأكلون الربا‏}‏ إلى قوله‏:‏

‏{‏وأحل الله البيع وحرم الربا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ إلى انتهاء ذكره إلى ما ينتظم من ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 113‏]‏- الآية ما يلحق بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وما آتيتم من ربا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏- الآية، هكذا قال‏:‏ إن هذه الآية مدنية، وهو- مع كوني لم أره لغيره- مشكل بقوله ‏{‏وقد فصل لكم ما حرم عليكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 119‏]‏- الآية‏.‏

ولما كان تحريم الربا بين الرب والعبد، كان فيه الوعيد بالإيذان بحرب من الله ورسوله، ولذلك حمت الأئمة ذرائعه أشد الحماية، وكان أشدهم في ذلك عالم المدينة حتى أنه حمي من صورته من الثقة بسلامة الباطن منه، وعمل بضد ذلك في محرمات ما بين العبد ونفسه، وكما حرم الله الربا فيما بينه وبين عبده من هذا الوجه الأعلى كذلك حرم أكل المال بالباطل فيما بين العبد وبين غيره من الطرف الأدنى، وجامع منزله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏- الآية إلى ما ينتظم به من قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ إلى ما ينتظم به من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ ‏[‏النسا‏:‏ 2‏]‏- الآيات في أموال اليتامى، فحرمه تعالى من جهة الأعلى والمثيل والأدنى، وانتظم التحرير في ثلاثة أصول‏:‏ من جهة ما بين الله وبين عبده ومن جهة ما بين العبد وبين نفسه، ومن جهة ما بين العبد وبين غيره، مما تستقرأ جملة آية في القرآن وأحاديثه في السنة ومسائله في فقه الأئمة؛ ولما كان له متسع، وقع فيما بين الحلال البين والحرام البين أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس، لأنها تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه، فلوقوعها بينهما يختلف فيها ولعرضه في الأولى، وعن حماية الله عباده عن وبيل الحرام تحقق لهم اسمه «الطيب»، فلم يتطبب بطب الله من لم يحتم عن محرماته ومتشابهاتها، وهو الورع الذي هو ملاك الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف الحرام تماماً في العلم والحال والعمل‏:‏ اعلم أن الإنسان لما كان خلقاً جامعاً كانت فيه بزرتان‏:‏ بزرة للخير وبزرة للشر، وبحسب تطهره وتخلصه من مزاحمة نبات بزرة الشر تنمو فيه وتزكو بزرة الخير، ولكل واحدة من البزرتين منبت في جسمه ونفسه وفؤاده، فأول الحروف في الترتيب العمل، والأساس لما بعده هو قراءة حرف الحرام، لتحصل به طهرة البدن الذي هو السابق في وجود الإنسان فمن غذي بالحرام في طفولته لم يقدر على اجتناب الآثام في كهولته إلا أن يطهر الله بما شاء من نار الورود في الدنيا من الأمراض والضراء، فهو الأساس الذي ينبني عليه تطهر النفس من المناهي وتطهر الفؤاد من العمه والمجاهل، والذي تحصل به قراءة هذا الحرف هو الورع الحاجز عما يضر بالجسم ويؤذي النفس وما يكره الخلق وما يغضب الرب، فمن أصاب شيئاً من ذلك ولم يبادر إليه بالتوبة عذب بكل آية قرأها وهو مخالف لحكمها «من لم يبال من أيّ باب دخل عليه رزقه لم يبال الله من أيّ باب أدخله النار»‏.‏

ولما كان الورع كف اليد ظاهراً عن الشيء الضار، وكانت الجوارح لا تنقاد إلا عن تأثر من النفس، لم يصح الورع ظاهراً إلا أن يقع في النفس روعة باطنه من تناول ذلك الشيء؛ ولما كانت النفس لا تتأثر إلا عن تبصر القلب في الضار كما لا ينكف اليد إلا عند تقذر النفس لما تدرك العين قذره حتى أن النفس الرضية تأنف من المحرمات كما يأنف المستنطف من المستقذرات، فأكلة الحرام هم دود جيفة الدنيا يستقذرهم أهل البصائر كما يستقذرون هم دود جيف المزابل‏.‏

ولما كان الحرام ما يضر العبد في نفسه كالميتة، تيسر على المستبصر كف يده عنها لما يدري من مضرتها بجسمه، وكذلك الدم المسفوح لأنه ميتة بانفصاله عن الحي ومفارقته لروح الحياة التي تخالطه في العروق، قلت‏:‏ وسيأتي قريباً تعليله في التوراة بما يقتضي أنه أكثر فعلاً في النفس وتطبيعاً لها بخلق ما هو دمه من اللحم- والله الموفق؛ وكذلك ما يضر بنفسه كلحم الخنزير لأنه رجس، والرجس هو خبائث الأخلاق التي هي عند العقلاء أقبح من خبائث الأبدان، وذلك لأن من اعتذى جسمه بلحم حيوان اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الحيوان وبخلق من أخلاقه، وفي نفس الخنزير مجامع رذائل الأخلاق من الإباء والحران والمكر والإقدام على ما يعانيه فيه الهلاك ومتابعة الفساد، والانكباب على ما تقبل عليه في أدنى الأشياء على ما أظهرت في خلقته آياته فإنه ليس له استشراف كذوات الأعناق، وكذلك ما يضر بهما وبالعقل كالخمر في نزفها للعقل وتصديعها للرأس وإيقاعها العداوة والبغضاء في خلق النفس، ولذلك هي جماع الإثم، فالمتبصر في المحرمات يأنف منها لما يدري من مضرتها وأذاها في الوقت الحاضر وفي معيبها في يوم الدنيا إلى ما أخبر به من سوء عقباها في يوم الدين، ومن شرب الخمر ومات ولم يتب منها كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار، ولو هدد شاربها في الدنيا من له أمر بأن يسقيه من بوله ورجيعه لوجد من الروع ما تحمله على الورع عنها، وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته فأنف منه رعاية نفسه لحق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه درك من جهة غيره فيتورع من أكل أموال الناس بالباطل لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل وما أخبر به من المعاقبة عليها في الآجل، ولها في ذاته مضرة في الوقت بتعرفها من موارد القرآن بنور الإيمان

‏{‏الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ وإن لم يحس بها، وليس تأويله الوعد بالنار لأن ذلك إنباء عند قوله تعالى ‏{‏وسيصلون سعيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، وكذلك إذا أنف مما يضره في نفسه وخاف مما يتطرق إليه ضره من غيره، أعظم أن يقرب حمى ما يتطرق إليه السطوة من ربه لأجله، وذلك فيما حرم عليه حماية لعظيم ملكه وعدم التفاوت في أمر رحمانيته في محرم الربا، ولما فيه أيضاً من مضرة وقته الحاضر التي يقيدها بالإيمان من تعريف ربه، فإنه تعالى كما عرف أن أكل مال الغير بالباطل نار في البطن، عرف أن أكل مال الربا جنون في العقل وخبال في النفس ‏{‏الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وأعظم من ذلك ما حرمه الله لعرائه عن اسمه عند إزهاق روحه، لأنه مأخوذ عن غير الله، وما أخذ عن غير الله كان أكله فسقاً وكفراً لأنه تناول الروح من يد من لا يملكها، ولذلك فرضت التسمية في التذكية ونفلت فيما سوى ذلك، فلا تصح قراءة هذا الحرف إلا بتبصرة القلب فيه وروعة النفس منه وورع اليد عنه، وإلا فهو من الذين يقرؤون حروفه ويضيعون حدوده، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «كثر هؤلاء من القراء، لا كثّرهم الله‏!‏» ومن لم تصح له قراءة هذا الحرف لم تصح له قراءة حرف دعاؤه «الرجل يطلب الله مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، يقول‏:‏ يا رب‏!‏ يا رب‏!‏ فأنى يستجاب لذلك‏!‏» فهذه قراءة هذا الحرف وشرطه- والله ولي التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 148‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

ولما كان قوله ‏{‏طاعم‏}‏ نكرة في سياق النفي، يعم كل طاعم من أهل شرعنا وغيرهم، وكان سبحانه قد حرم على اليهود أشياء غير ما تقدم، اقتضت إحاطة العلم أن قال مبيناً لإحاطة علمه وتكذيباً لليهود في قولهم‏:‏ لم يحرم الله علينا شيئاً، إنما حرمنا على أنفسنا ما حرم إسرائيل على نفسه‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا‏}‏ أي اليهود ‏{‏حرمنا‏}‏ بما لنا من العظمة التي لا تدافع ‏{‏كل ذي ظفر‏}‏ أي على ما هو كالإصبع للآدمي من الإبل والسباع والطيور التي تتقوى بأظفارها ‏{‏ومن البقر والغنم‏}‏ أي التي هي ذوات الأظلاف ‏{‏حرمنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏عليهم شحومهما‏}‏ أي الصنفين؛ ثم استثنى فقال‏:‏ ‏{‏إلا ما حملت ظهورهما‏}‏ أي من الشحوم مما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما ‏{‏أو الحوايا‏}‏ وهي الأمعاء التي هي متعاطفة متلوية، جمع حوية فوزنها فعائل كسفينة وسفائن، وقيل‏:‏ جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء ‏{‏أو ما اختلط‏}‏ أي من الشحوم ‏{‏بعظم‏}‏ مثل شحم الألية فإن ذلك لا يحرم، وهذا السياق بتقدم الجار وبناء الكلام عليه يدل على أن ما عدا المذكور من الصنفين حلال لهم‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ لم حرم عليهم هذه الطيبات‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي التحريم العظيم والجزاء الكبير وهو تحريم الطيبات ‏{‏جزيناهم‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏ببغيهم‏}‏ أي في أمورهم التي تجاوزوا فيها الحدود، وفي إيلاء هذه الآية- التي فيها ما حرم على اليهود- لما قبلها مع الوفاء بالمقصود من حصر محرمات المطاعم على هذه الأمة وغيرها أمران جليلان‏:‏ أحدهما بيان اطلاعه صلى الله عليه وسلم على تفصيل ما أوحي إلي من تقدمه ولما يشامم أحداً من أتباعهم ولا دارس عالماً ولا درس علماً قط، فلا دليل على صدقه على الله أعظم من ذلك، والثاني تفضيله هذه الأمة بأنه أحل لها الخبائث عند الضرورة رحمة لهم، وأزال عنها في تلك الحالة ضرها ولم يفعل بها كما فعل باليهود في أنه حرم عليهم طائفة من الطيبات ولم يحلها لهم في حال من الأحوال عقوبة لهم، وفي ذلك أتم تحذير لهذه الأمة من أن يبغوا فيعاقبوا كما عوقب من قبلهم على ما نبه عليه في قوله ‏{‏غير محلي الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ فبان الصدق وحصحص الحق ولم يبقى لمتعنت كلام، فحسن جداً ختم ذلك بقوله ‏{‏وإنا لصادقون *‏}‏ أي ثابت صدقنا أزلاً وأبداً كما اقتضاه ما لنا من العظمة، وتعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن‏}‏ أي وتسبب عن هذا الإيحاء الجامع الوجيز الدال على الصدق الذي لا شبهة فيه أنا نقول ذلك‏:‏ ‏{‏كذبوك فقل‏}‏ والتعبير بأداة الشك مشير إلى أن الحال يقتضي أن يستبعد أن يقع منهم تكذيب بعد هذا ‏{‏ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بالبيان والإمهال مع كل امتنان ‏{‏ذو رحمة واسعة‏}‏ أي فهو مع اقتداره قضى أنه يحلم عنكم بالإمهال إلى أجل يعلمه‏.‏

ولما أخبر عن رحمته، نوه بعظيم سطوته فقال‏:‏ ‏{‏ولا يرد بأسه‏}‏ أي إذا أراد الانتقام ‏{‏عن القوم المجرمين *‏}‏ أي القاطعين لما ينبغي وصله، فلا يغتر أحد بإمهاله في سوء أعماله وتحقيق ضلاله، وفي هذه الآية من شديد التهديد ما لطيف الاستعطاف ما هو مسبوك على الحد الأقصى من البلاغة‏.‏

ولما تم ذلك فعلم أن إقدامهم على الأحكام الدينية بغير حجة أصلاً، اقتضى الحال أن يقال‏:‏ قد بطل بالعقل والنقل جميع ما قالوه في التحريم على وجه أبطل شركهم، فهل بقي لهم مقال‏؟‏ فأخبر سبحانه بشبهة يقولونها اعتذاراً عن جهلهم على وجه هو وحده كاف في الدلالة على حقية ما يقوله من الرسالة، فوقع طبق ما قال عن أهل الضلال، فقال مخبراً بما سيقولونه قبل وقوعه دلالة على صدق رسله وكذب المشركين فيما يخالفونهم فيه‏:‏ ‏{‏سيقول‏}‏ أي في المستقبل، وأظهر موضع الإضمار تنصيصاً عليهم وتبكيتاً لهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين أشركوا‏}‏ تكذيباً منهم ‏{‏لو شاء الله‏}‏ أي الذي له جميع الكمال عدم إشراكنا وتحريمنا ‏{‏ما أشركنا‏}‏ أي بصنم ولا غيره ‏{‏ولا أباؤنا‏}‏ أي ما وقع من إشراك ‏{‏ولا حرمنا من شيء‏}‏ أي ما تقدم من البحائر والسوائب والزروع وغيرها أي ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق والحكمة لأنه قادر، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه، وهو لم يمنعنا منه فهو حق‏.‏

ولما كان هذا عناداً منهم ظاهراً بعد وضوح الأمر بما أقام على صدق رسله من البينات، كان كأنه قيل تعجباً منهم‏:‏ هل فعل أحد غيرهم مثل فعلهم هذا أو قال مثل ما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك التكذيب البعيد عن الصواب ‏{‏كذب الذين‏}‏ ولما لم يكن التكذيب عاماً أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ من الأمم الخالية بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثاً، فكانت دعوى الأنبياء باطلة، وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام ومِلكه عام، فهو لا يسأل عما يفعل، وتمادى بهم غرور التكذيب ‏{‏حتى ذاقوا بأسنا‏}‏ أي عذابنا لما لنا من العظمة، فإن من له الأمر كله لا يسأل عما يفعل، فلم ينفعهم عنادهم عند ذوق البأس، بل انحلت عزائم همهم فخضعوا لنا وآمنوا برسلنا، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، فالآية من الاحتباك‏:‏ أثبت أولاً الإشراك دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً التكذيب دليلاً على حذفه أولاً، وسيأتي توجيه أنه لا بد من تضليل إحدى الطائفتين المتعاندتين وإن كان الكل بمشيئة الله، لأنه لا مانع من إتيان الأمر على خلاف الإرادة‏.‏

ولما كان ما قالوه شبهة بعيدة عن العلم، أعلى درجاتها أن يكون من أنواع الخطابة فتفيد الظن في أعظم مسائل علم الأصول الذي لا يحل الاعتماد فيه إلا على القواطع، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الذين تلقوا ما يلقيه الشيطان إليهم- كما أشير إليه في سورة الحج- تهكماً بهم في بعدهم عن العلم وجدالهم بعد نهوض الحجج ‏{‏هل عندكم‏}‏ أيها الجهلة، وأغرق في السؤال فقال‏:‏ ‏{‏من علم‏}‏ أي يصح الاحتجاج به في مثل هذا المقام الضنك ‏{‏فتخرجوه لنا‏}‏ أي لي ولأتباعي وإن كان مما يجب أن يكون مكنوناً مضنوناً به على غير أهله مخزوناً، فهو تهكم بهم‏.‏

ولما كان جوابهم عن هذا السكوت لأنه لا علم عندهم، قال دالاً على ذلك‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏تتبعون‏}‏ أي في قولكم هذا وغالب أموركم ‏{‏إلا الظن‏}‏ أي في أصول دينكم وهي لا يحل فيها قول إلا بقاطع ‏{‏وإن‏}‏ ي وما ‏{‏أنتم إلا تخرصون *‏}‏ أي تقولون تارة بالحزر والتخمين وتارة بالكذب المحض اليقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 150‏]‏

‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

ولما انتفى أن يكون لهم حجة، وثبت أن الأمر إنما هو لله، ثبت أنه المختص بالحجة الواضحة، فقال مسبباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏قل فلله‏}‏ أي الإله الأعظم وحده ‏{‏الحجة البالغة‏}‏ أي التي بلغت أعلى درجات الحق قوة ومتانة وبياناً ووضوحاً ورصانة بسبب أنه شامل العلم كامل القدرة كما أقررتم بذلك حين قلتم «ولو شاء الله ما أشركنا» وإن كنتم قلتموه على سبيل الإلزام والعناد لا لأجل التدين والاعتقاد ‏{‏فلو شاء‏}‏ أي الله ‏{‏لهداكم‏}‏ أي أنتم ومخالفيكم ‏{‏أجمعين *‏}‏ ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء هداية بعض وضلال آخرين، فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه، فلزم على قولكم أن يكون الفريقان محقين، فيكون الشيء الواحد حقاً غير حق في حال واحد، وهذا لا يقوله عاقل، ويلزمكم على ذلك أيضاً أن توالوا أخصامكم ولا تعادوهم وإن فعلوا ما فعلوا، لأنه حق رضى الله لأنه بمشيئته وأنتم لا تقولون ذلك، فبطل قولكم فثبت أنه قد يشاء الباطل لأنه لا يسأل عما يفعل ويرسل الرسل إليكم لإزالته ليقيم بهم الحجة على من يريد عقابه على ما يتعارفه الناس بينهم، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع‏.‏

ولما صدق الحق، وانكسر جند الباطل واندق ببطلان جميع شبههم، ونطقت الدلائل وأفحم المجادل، فبان أنه لا شاهد لهم بحق لأنه لا حق لهم، كان كأنه قيل‏:‏ قل لهم‏:‏ ها أنا قد شهد لي بما قلته مَن لا ترد شهادته وزكاتي الذي لا يقبل إلا تزكيته بهذا الكتاب الذي كان عجزكم عن الإتيان بشيء من مثله شاهداً بأنه قوله، فهل لكم أنتم من شاهد يقبل‏!‏ ولما لم يكن لهم شاهد غير متخرصيهم، فإن المبطل يظهر باطله عند المحاققة سنة من الله مستمرة، فيظهر للمشهود لهم بما يلوح من بهتهم أنهم ليسوا على شيء، أمره سبحانه أن يأمرهم بدعائهم ليظهر خزيهم وتشتهر فضيحتهم فقال‏:‏ ‏{‏قل هلم‏}‏ أي احضروا، وهي كلمة دعوة يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع عند الحجازيين ‏{‏شهداءكم‏}‏‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ أيّ شهداء‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏الذين يشهدون‏}‏ أي يوقعون الشهادة على ‏{‏أن الله‏}‏ أي الذي لا حكم لغيره ‏{‏حرم هذا‏}‏ أي الذي ذكرتموه من قبل، وإضافة الشهداء إليهم ووصفهم ب «الذين» دليل على أنهم معروفون موسومون بنصرة مذهبهم بالباطل، ولو قال‏:‏ شهداء- من غير إضافة لأفهم أن المطلوب من يشهد بالحق وليس كذلك، لأنه أقيم الدليل العقلي على أنه لا حجة لهم وأن الحجة لله على خلاف ما ادعوه، فبطل قطعاً أن يكون أحد يشهد على ذلك بحق‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فإنهم إذا أحضروا لا يقدرون- إن كان لهم عقل أو فيهم حياء- على النطق إذا سمعوا هذا الحق، بني عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإن‏}‏ اجترؤوا بوقاحة ‏{‏شهدوا‏}‏ أي كذباً وزوراً بذلك الذي أبطلناه بالأدلة القطعية ‏{‏فلا تشهد معهم‏}‏ أي فاتركهم ولا تسلم لهم، فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى ‏{‏ولا تتبع أهواء‏}‏ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف دلالة على أن القائد إلى التكذيب وكل ردى إنما هو الهوى، وأن من خالف ظاهر الآيات إنما هو صاحب هوى، فقال‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا‏}‏ أي أوقعوا التكذيب ‏{‏بآياتنا‏}‏ أي على ما لها من الظهور بما لها من العظمة بإضافتها إلينا‏.‏

ولما وصفهم بالتكذيب، أتبعه الوصف بعدم الإيمان، ودل بالنسق بالواو على العراقة في كل من الوصفين فقال‏:‏ ‏{‏والذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ أي التي هي دار الجزاء، فإنهم لو جوزوها ما اجترؤوا على الفجور ‏{‏وهم بربهم‏}‏ أي الذين لا نعمة عليهم ولا خير عندهم إلا وهو منه وحده ‏{‏يعدلون‏}‏ أي يجعلون غيره عديلاً له، وسيعلمون حين يقولون لشركائهم وهم في جهنم يختصمون ‏{‏تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 97، 98‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

ولما أبطل دينهم كله أصولاً وفروعاً في التحريم والإشراك، وبين فساده بالدلائل النيرة، ناسب أن يخبرهم بالدين الحق مما حرمه الملك الذي له الخلق والأمر ومن غيره، فليس التحريم لأحد غيره فقال‏:‏ ‏{‏قل تعالوا‏}‏ أي أقبلوا إليّ صاعدين من حضيض الجهل والتقليد وسوء المذهب إلى أوج العلم ومحاسن الأعمال؛ قال صاحب الكشاف‏:‏ هو من الخاص الذي صار عاماً، يعني حتى صار يقوله الأسفل للأعلى ‏{‏أتل‏}‏ أي أقرأ، من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً‏.‏ ولما كان القصد عموم كل أحد بالتلاوة وإنما خص المخاطبين بالذكر لاعتقادهم خلاف ذلك، وكان المحرم أهم، قدمه فقال‏:‏ ‏{‏ما حرم ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بالتحليل والتحريم ‏{‏عليكم‏}‏ فسخطه منكم، وما وصاكم به إقداماً وإحطاماً فرضيه لكم من قبيلي الأصول والفروع؛ ثم فسر فعل التلاوة ناهياً عن الشرك، وما بعده من مضمون الأمر إنما عدي عنها، فقال‏:‏ ‏{‏ألا تشركوا به شيئاً‏}‏ الآيات مرتباً جملها أحسن ترتيب، فبدأ بالتوحيد في صريح البراءة من الشرك إشارة إلى أن التخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل، فإن التقية بالحمية قبل الدواء، وقرن به البر لأنهما من باب شكر المنعم وتعظيماً لأمر العقوق، ثم أولاه القتل الذي هو أكبر الكبائر بعد الشرك، وبدأه بقتل الولد لأنه أفحشه وأفحش من مطلقه فعله خوف القلة، فلما وصى بأول واجب للمنعم الأول الموجد من العدم، أتبعه ما لأول منعم بعده بالتسبب في الوجود، فقال ناهياً عن الإساءة في صورة الأمر بالإحسان على أوكد وجه لما للنفوس من التهاون في حقهما، وكذا جميع المأمورات ساقها هذا السياق المفهم لأن أضدادها منهي عنها ليكون مأموراً بها منهياً عن أضدادها، فيكون ذلك أوكد لها وأضخم‏:‏ ‏{‏وبالوالدين‏}‏ أي افعلوا بهما ‏{‏إحساناً‏}‏‏.‏

ولما أوصى بالسبب في الوجود، نهى عن التسبب في الإعدام وبدأ بأشده فقال‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم‏}‏ ولما كان النهي عاماً، وكان ربما وجب على الولد قتل، خص لبيان الجهة فقال‏:‏ ‏{‏من إملاق‏}‏ أي من أجل فقر حاصل بكم، ثم علل ذلك، ولأجل أن الظاهر هو حصول الفقر قدم الآباء فقال‏:‏ ‏{‏نحن نرزقكم‏}‏ بالخطاب، أي أيها الفقراء، ثم عطف عليه الأبناء فقال‏:‏ ‏{‏وإياهم‏}‏ وظاهر قوله في الإسراء ‏{‏خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ أن الآباء موسرون ولكنهم يخشون من إطعام الأبناء الفقر، فبدأ بالأولاد فقال‏:‏ «نحن نرزقهم» ثم عطف الآباء فقال «وإياكم»- نبه عليه أبو حيان‏.‏

ولما كان قتلهم أفحش الفواحش بعد الشرك، أتبعه النهي عن مطلق الفواحش، وهي ما غلظت قباحته، وعظم أمرها بالنهي عن القربان فضلاً عن الغشيان فقال‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الفواحش‏}‏ ثم أبدل منها تأكيداً للتعميم قوله‏:‏ ‏{‏ما ظهر منها‏}‏ أي الفواحش ‏{‏وما بطن‏}‏ ثم صرح منها بمطلق القتل تعظيماً له بالتخصيص بعد التعميم فقال‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم الله‏}‏ أي الملك الأعلى عليكم قتلها ‏{‏إلا بالحق‏}‏ أي الكامل، ولا يكون كاملاً إلا وهو كالشمس وضوحاً لا شبهة فيه، فصار قتل الولد منهياً عنه ثلاث مرات؛ ثم أكد المذكور بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الأمر العظيم في هذه المذكورات‏.‏

ولما كانت هذه الأشياء شديدة على النفس، ختمها بما لا يقوله إلا المحب الشفوق ليتقبلها القلب فقال‏:‏ ‏{‏وصّاكم به‏}‏ أمراً ونهياً؛ ولما كانت هذه الأشياء لعظيم خطرها وجلالة وقعها في النفوس لا تحتاج إلى مزيد فكر قال‏:‏ ‏{‏لعلكم تعقلون *‏}‏ أي لتكونوا على رجاء من المشي على منهاج العقلاء، فعلم من ذكر الوصية أن هذه المذكورات هي الموصى بها والمحرمات أضدادها، فصار شأنها مؤكداً من وجهين‏:‏ التصريح بالتوصية بها، والنهي عن أضدادها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏152- 153‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

ولما كان المال عديل الروح من حيث إنه لا قوام لها إلا به، ابتدأ الآية التي تليها بالأموال، ولما كان أعظمها خطراً وحرمة مال اليتيم لضعفه وقلة ناصره، ابتدأ به فنهي عن قربه فضلاً عن أكله أو شربه فقال‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم‏}‏ أي بنوع من أنواع القربان عمل فيه أو غيره ‏{‏إلا بالتي هي أحسن‏}‏ من الخصال من السعي في تنميته وتثميره وليستمر ذلك ‏{‏حتى يبلغ أشده‏}‏ وهو سن يبلغ به أوان حصول عقله عادة وعقل يظهر به رشده؛ ثم ثنى بالمقادير على وجه يعم فقال‏:‏ ‏{‏وأوفوا‏}‏ أي أتموا ‏{‏الكيل والميزان‏}‏ لأنهما الحكم في أموال الأيتام وغيرهم؛ ولما كان الشيء ربما أطلق على ما قاربه نحو ‏{‏قد قامت الصلاة‏}‏ أي قرب قيامها، وهذا وقت كذا- وإذا قرب جداً، أزيل هذا الاحتمال بقوله‏:‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ أي إيفاء كائناً به من غير إفراط ولا تفريط‏.‏

ولما كانت المقادير لا تكاد تتساوى لا سيما الميزان فإنه أبعدها من ذلك، وأقربها الذرع وهو داخل في الكيل، فإنه يقال‏:‏ كال الشيء بالشيء‏:‏ قاسه، أشار إلى أنه ليس على المكلف المبني أمره على العجز للضعف إلا الجهد فقال‏:‏ ‏{‏لا نكلف‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏نفساً إلا وسعها‏}‏ وما وراء الوسع معفو عنه؛ ثم ثلث بالعدل في القول لأنه الحكم على الأموال وغيرها، وقدم عليه الفعل لأنه دال عليه، فصار الفعل موصى به مرتين فقال‏:‏ ‏{‏وإذا قلتم‏}‏ أي في شهادة أو في حكم أو توفيق بين اثنين أو غير ذلك ‏{‏فاعدلوا‏}‏ أي توفيقاً بين القول والفعل‏.‏

ولما كانت النفوس مجبولة على الشفقة على القريب قال‏:‏ ‏{‏ولو كان‏}‏ أي المقول في حقه له أو عليه بشهادة أو غيرها ‏{‏ذا قربى‏}‏ ولا تحابوه طمعاً في مناصرته أو خوفاً من مضارته؛ ثم ختم بالعهد لجمعه الكل في القول والفعل فقال‏:‏ ‏{‏وبعهد الله‏}‏ أي الملك الأعظم خاصة ‏{‏أوفوا‏}‏ وهذا يشمل كل ما على الإنسان وله، فإن الله لم يهمل شيئاً بغير تقدم فيه؛ ثم أكد تعظيم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الأمر المعتنى به ‏{‏وصّاكم به‏}‏ أي ربكم المحسن إليكم‏.‏

ولما كانت هذه الأفعال والأقوال شديداً على النفس العدلُ فيها لكونها شهوات، تقدم بالترغيب فيها والترهيب منها بأن كل من يفعل شيئاً منها مع غيره يوشك أن يفعل معه مثله، فلذلك حض على التذكر في الوصية بها ولأنها خفية تحتاج إلى مزيد تدبر فقال‏:‏ ‏{‏لعلكم تذكرون *‏}‏ أي لتكونوا بحيث يحصل لكم التذكر- ولو على وجه خفي بما أشار إليه الإدغام- فيما جبلت عليه نفوسكم من محبة مثل ذلك لكم، فتحكموا لغيركم بما تحكمون به لأنفسكم‏.‏

ولما قرر هذه الشرائع، نبه على تعظيمها بالخصوص على وجه يعم جميع ما ذكر في السورة بل وفي غيرها، فقال عاطفاً على ما تقديره- عطفاً على المنهيات وأضداد المأمورات على وجه يشمل سائر الشريعة-‏:‏ ولا تزيغوا عن سبيلي‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ أي ولأن- على قراءة الجماعة بالفتح، أي اتبعوه لذلك، وعلى قراءة ابن عامر ويعقوب بالكسر هو ابتداء ‏{‏هذا‏}‏ أي الذي شرعته لكم ‏{‏صراطي‏}‏ حال كونه ‏{‏مستقيماً فاتبعوه‏}‏ أي بغاية جهدكم لأنه الجامع للعباد على الحق الذي فيه كل خير‏.‏

ولما كان الأمر باتباعه متضمناً للنهي عن غيره، صرح به تأكيداً لأمره فقال‏:‏ ‏{‏ولا تتبعوا السبل‏}‏ أي المنشعبة عن الأهوية المفرقة بين العباد، ولذا قال مسبباً ‏{‏فتفرق بكم‏}‏ أي تلك السبل الباطلة ‏{‏عن سبيله‏}‏ ولما مدحه آمراً به ناهياً عن غيره مبيناً للعلة في ذلك، أكد مدحه فقال‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الأمر العظيم من اتباعه ‏{‏وصّاكم به‏}‏‏.‏

ولما كان قد حذر من الزلل عنه، وكان من المعلوم أن من ضل عن الطريق الأقوم وقع في المهالك، وكان كل من يتخيل أنه يقع في مهلك يخاف، قال‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون *‏}‏ أي اتبعوه واتركوا غيره ليكون حالكم حال من يرجى له أن يخاف من أن يزل فيضل فيهلك، وهذا كما مدحه سبحانه سابقاً في قوله ‏{‏وهذا صراط ربك مستقيماً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 126‏]‏، ‏{‏قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 126‏]‏ وفصل ما هنا من الأحكام في ثلاث آيات، وختم كل آية لذلك بالوصية ليكون ذلك آكد في القول فيكون أدعى للقبول، وختم كل واحدة منها بما ختم لأنه إذا كان العقل دعا إلى التذكير فحمل على التقوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏154- 157‏]‏

‏{‏ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه الآيات الثلاث وافية بالآيات العشر التي كتبها الله لموسى عليه السلام على لوحي الشهادة في أول ما أوحي إليه في طور سيناء المشار إليها بقوله ‏{‏وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ وبنى عليها التوراة وأمره أن يودعها في تابوت العهد لتكون شهادة عليهم وعلى أعقابهم كما هو مذكور في وسط السفر الثاني من التوراة وقد مضى بيانه في البقرة ويأتي في آخر هذه المقولة وزائدة عليها من الأحكام والمحاسن ما شاء الله؛ حسن أن تذكر بعدها التوراة، فقال مشيراً بأداة التراخي إلى كل من الترتيب والتعظيم‏:‏ ‏{‏ثم آتينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي تقتضي تعظيم ما كان من عندنا ‏{‏موسى الكتاب‏}‏ أي المشار إليه بقوله تعالى ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏- وهي- والله أعلم- معطوفة على قوله ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ لأنه تعالى بعد أن أعطى موسى العشر الآيات واعده إلى الجبل مواعدة ثانية، فشرع له بعض الأحكام وأمره بنصب قبة الزمان التي يوحي إليه فيها ويصلون إليها، وببعض ما يتخذ من آلاتها كما مضى في البقرة، ثم ذكر بعد ذلك بيسير تحريم الشحوم عليهم، فقال في أوائل السفر الثالث وهو سفر الكهنة، وفيه تلخيص أمر القرابين‏:‏ ودعا الرب موسى وكلمه في قبة الأمد وقال له‏:‏ كلم بني إسرائيل وقل لهم‏:‏ كل إنسان منكم إذا قرب للرب قرباناً من البهائم فلتكن قرابينكم من البقر ومن الغنم- إلى أن قال‏:‏ ويقرب قرباناً للرب الحجاب المبسوط على الأحشاء وكل الثوب الذي على الأكشاح والكليتين والشحم الذي عليهما وعلى الجنب- إلى أن قال‏:‏ وقال‏:‏ الشحوم للرب عهد الأبد، ولا تأكلوا دماً ولا شحماً، ثم قال‏:‏ وكلم الرب موسى وقال له‏:‏ كلم بني إسرائيل وقل لهم‏:‏ لا تأكلوا شحم البقر ولا شحم الغنم‏:‏ الضأن والماعز جميعاً، لأن كل من أكل شحم بهيمة ويقرب قرباناً للرب، تهلك تلك النفس من شعبها، ولا تأكلوا دماً حيث ما سكنتم، لا دم البهائم ولا دم الطير، وأيّة نفس أكلت دماً تهلك تلك النفس من شعبها، وقال في السفر الخامس‏:‏ فأما الدم فلا تأكلوا ولكن ادفقوه على الأرض مثل الماء، ثم قال بعده بقليل‏:‏ وكلوا في قراكم من كل شهوات أنفسكم، ولكن إياكم أن تأكلوا دماً، لأن دم البهيمة هو في نفسها، فلا تأكلوا النفس مع اللحم ليحسن إليكم وإلى أولادكم من بعدكم إذا عملتم الحسنة أمام الله ربكم؛ رجع إلى السفر الثالث ثم قال‏:‏ ودخل موسى وهارون إلى قبة الزمان وخرجا ودعوا الشعب، فظهر مجد الرب أمام جميع الشعب، ونزلت نار من قبل الرب فأحرقت الشحم والذبيحة الكاملة له على المذبح، وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله، وخر الشعب كله على وجهه؛ ثم ذكر عقب ذلك بيسير محرمات الحيوان، وكذا ذكر في السفر الخامس وقد جمعت بينهما ومعظم السياق للخامس‏:‏ قال‏:‏ لا تأكلوا شيئاً نجساً، هذا‏!‏ كلوا من جميع البهائم‏:‏ الثور‏:‏ والحمل والنعجة والمعز والأيل والظبي والجوذر والرخ والرئم والوعل والثيثل كل بهيمة ذات ظلف مقسوم ظلفها تجتر كلوها، وحرموا من التي لا تجتر، ومن التي لها ظلوف مقسومة ولا تجتر الجمل والأرنب والوبر التي تجتر وليس لها أظلاف مقسومة هي نجسة لكم، وفي الثالث‏:‏ وحرموا من البهائم التي ليست لها أظلاف التي تجتر‏:‏ الجمل الذي يجتر وليس له أظلاف هو نجس محرم عليكم، والأرنب الذي يجتر وليس له أظلاف منجس محرم عليكم؛ رجع‏:‏ والخنزير الذي له أظلاف ولا يجتر هو نجس، لا تأكلوا من لحوم هذه ولا تقربوا إلى أجسادها؛ وقال في الثالث‏:‏ ولا تمسوا لحومها لأنها نجسة محرمة عليكم؛ وقال في الخامس من ترجمة الاثنين والسبعين‏:‏ وإياكم أن تأكلوا كل نجس، ويكون الذي تأكلونه من الدواب العجل من البقر والخروف من الغنم والجدي من المعز أو الأيل والغزال والعين والوعل وعنز الجبل واليحمور وناقة القمر والزرافة، وكل دابة مشقوقة الظلف وهي تنبت أظافير في كل ظلفها واجتر من الدواب‏.‏

فإياه فكلوا، والذي لا تأكلون منه من الذي يجتر ومن المشقوق الظلف الذي ينبت له أظافير الجمل والأرنب واليربوع، فإن ذلك يجتر ولكنه غير مشقوق الظلف، وهو لا يحل لكم، والخنزير أيضاً فإن ظلفه مشقوق وينبت في ظلفه أظافير غير أنه لا يجتر، وما لا يجتر فإنه لا يحل لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تقربوا أجسادها؛ وقال في الثالث منها‏:‏ وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما‏:‏ كلما بني إسرائيل وقولا لهما‏:‏ إن الذي تأكلونه من المواشي من جميع الأنعام التي على الأرض كل بهيمة قد شق ظلفها وهي تخرج أظفاراً في كلا ظلفيها وتجتر، فذلك الذي تأكلونه من الأنعام، والذي لا يحل مما يجتر ولم يشق ظلفه الجمل الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم، واليربوع- وفي نسخة‏:‏ السنجاب- الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم لم يطهر لكم، والأرنب الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه لا يطهر لكم والخنزير فإنه مشقوق الظلف ويخرج أظفاراً في ظلفه وهو لا يجتر فإنه لا يطهر لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تمسوا ما مات منها، فإن ذلك لا يطهر لكم؛ رجع إلى نسختي، ثم ذكر في الطير ودواب البر قريباً مما في شرعنا إلى أن قال‏:‏ ولا تأكلوا أشياء نجسة بل ادفعوها إلى السكان الذين في قراكم يأكلونها أو يبيعونها من الغرباء، لأنك شعب طاهر لله ربك لا تطبخوا جدياً بلبن أمه؛ وقال في ترجمة الاثنين والسبعين‏:‏ ولا تطبخ الخروف بلبن أمه؛ وقال في السفر الخامس‏:‏ وكلوا من الطير ما كان زكياً وحرموا هذه التي أصف لكم، لا تأكلوا منها شيئاً‏:‏ النسر والحداء- وذكر نحواً مما عندنا، وقال في نسختي في الثالث‏:‏ فمن مس شيئاً من هذه- أي المحرمات- يكون نجساً إلى المساء، ومن حمل منها شيئاً فليغسل ثيابه ويكون نجساً إلى الليل- انتهى‏.‏

الظبي- بالمعجمة المشاركة- معروف، والجوذر- بفتح الجيم والذال المعجمة والراء‏:‏ البقرة الوحشية، والرئم- بكسر المهملة‏:‏ الظبي الخالص البياض، والثيثل- بمثلثتين مفتوحتين بينهما ياء تحتانية ساكنة‏:‏ بقر الوحش، والأيل- بفتح الهمزة وكسر التحتانية المشددة، الوعل- بفتح الواو وكسر المهملة- وهو تيس الجبل، والحمل- بفتح المهملة‏:‏ الرضيع من أولاد الضأن، وقوله‏:‏ لا تطبخوا جدياً بلبن أمه، الظاهر أن معناه النهي عن أكله ما دام يرضع، وما بعد الذي في الثالث هو معظم التوراة، والذي في الخامس إنما هو إعادة لما في الثالث، فإن الخامس تلخيص لجميع ما تقدمه من القصص والأحكام مع زيادات، فصدق أن إيتاء الكتاب أتى معظمه بعد تحريم ما حرم عليهم، ويجوز- وهو أحسن- أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره‏:‏ ذلكم وصاكم به كما وصى بني إسرائيل في الفصل الذي نسبته من التوراة كنسبة أم القرآن من القرآن، وذلك هي العشر الآيات التي هي أول ما كتبه الله لموسى عليه السلام، وهي أول التوراة في الحقيقة لأنها أول الأحكام، وما قبلها فهو قصص وحاصل هذه العشر آيات‏:‏ الرب إلهك الذي أصعدك من أرض مصر من العبودية والرق، لا يكونن لك إله غيري، لا تقسم باسمي كذباً، احفظ يوم السبت، أكرم والديك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تمدن عينيك إلى ما في أيدي الناس، فالمعنى‏:‏ ذلك وصيناكم به كما وصينا بني إسرائيل به في العشر الآيات وبعض ما آتينا موسى من التوراة، ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ لكون هذه الآيات محكمة في كل الشرائع لم تنسخ في أمة من الأمم ولا تنسخ، وصاكم به يا بني آدم في الزمن الأقدم، ولم يزدد الأمر بها في التوصية إلا شدة ‏{‏ثم آتينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏موسى الكتاب‏}‏ أي جميعه وهي فيه، حال كونه ‏{‏تماماً‏}‏ لم ينقص عما يصلحهم شيئاً ‏{‏على‏}‏ الوجه ‏{‏الذي أحسن‏}‏ أي أتى بالإحسان فأثبت الحسن وجمعه بما بيّن من الشرع وبما حمى طوائف أهل الأرض به من الإهلاك بعامه، فإنه نقل أن الله تعالى لم يهلك قوماً هلاكاً عاماً بعد إنزال التوراة ‏{‏وتفصيلاً لكل شيء‏}‏ من جملة ذلك الفصل المحتوي على الكلمات الحاوية لكل شيء يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا، كما أن القرآن تفصيل لكل شيء من الجوامع السبع التي حوتها أم القرآن الحاوية لمصالح الدارين، وفي هذين الاحتمالين المقتضيين لكون «ثم» على حقيقتها من الترتيب والمهلة علم من أعلام النبوة، وهو الاطلاع على أن العشر الآيات وتحريم ما حرم عليهم بالبغي في أوائل ما أوحي إلى موسى عليه السلام بعد إغراق فبعون وأن معظم التوراة أنزل بعد ذلك، وهذا لا يعرفه إلا أحبارهم ‏{‏وهدى‏}‏ أي بياناً ‏{‏ورحمة‏}‏ أي إكراماً لمن يقبله ويعمل به ‏{‏لعلهم‏}‏ أي بني إسرائيل ‏{‏بلقاء ربهم‏}‏ أي الذي أخرجهم من مصر من العبودية والرق بقوته العظيمة وكلماته التامة ‏{‏يؤمنون *‏}‏ أي ليكون حالهم بعد إنزال الكتاب- لما يرون من حسن شرائعه وفخامة كلامه وجلالة أمره- حال من يرجى أن يجدد الإيمان في كل وقت بلقاء ربه لقدرته على البعث الذي الإيمان به نهاية تصديق الأنبياء لأنه لا تستقل به العقول، وإنما يثبت بالسمع مع تجويز العقل له، فيعلموا أنه لا يشبهه شيء كما أن كلامه لا يشبهه كلام فلا يبغوا باتخاذ عجل غاية أمره خوار لا يفهم ومجمجة لا تفيد‏.‏

فلما بين أن إنزال الكتب رحمة منه لأن غايتها الدلالة على منزلها فتمتثل أوامره وتتقى مناهيه وزواجره، بين أنه لم يخص تلك الأمم بذلك، بل أنزل على هذه الأمة كتاباً ولم يرض لها كونه مثل تلك الكتب، بل جعله أعظمها بركة وأبينها دلالة، فقال‏:‏ ‏{‏وهذا‏}‏ أي القرآن ‏{‏كتاب‏}‏ أي عظيم ‏{‏أنزلناه‏}‏ أي بعظمتنا إليكم بلسانكم حجة عليكم ‏{‏مبارك‏}‏ أي ثابت كل ما فيه من وعد ووعيد وخير وغيره ثباتاً لا تمكن إزالته مع اليمن والخير‏.‏

ولما كان هذا معناه‏:‏ وكان داعياً إليه محبباً فيه، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوه‏}‏ أي ليكون جميع أموركم ثابتة ميمونة، ولما أمر باتباعه وكان الإنسان ربما تبعه في الظاهر، أمر بإيقاع التقوى المصححة للباطن إيقاعاً عاماً، ولذلك حذف الضمير فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا‏}‏ أي ومع ذلك فأوقعوا التقوى، وهي إيجاد الوقاية من كل محذور، فإن الخطر الشديد والسلامة على غير القياس، فلا تزايلوا الخوف من منزله بجهدكم، فإن ذلك أجدر أن يحملكم على تمام الاتباع وإخلاصه ‏{‏لعلكم ترحمون *‏}‏ أي ليكون حالكم حال من يرجى له الإكرام بالعطايا الجسام، والآيتان ناظرتان إلى قوله تعالى ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‏}‏- إلى قوله-‏:‏ ‏{‏وهم على صلاتهم يحافظون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏، ثم بين المراد من إنزاله وهو إقامة الحجة البالغة فقال‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ أي لأن لا ‏{‏تقولوا‏}‏ أو كراهة أن تقولوا أيتها الأمة الأمية ‏{‏إنما أنزل الكتاب‏}‏ أي الرباني المشهور ‏{‏على طائفتين‏}‏ وقرب الزمن وبعّضه بإدخال الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلنا‏}‏ أي اليهود والنصارى ‏{‏وإن‏}‏ أي وأنا- أو وأن الشأن- ‏{‏كنا عن دراستهم‏}‏ أي قراءتهم لكتابهم قراءة مرددة‏.‏

ولما كانت هي المخففة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية فقال‏:‏ ‏{‏لغافلين*‏}‏ أي لا نعرف حقيقتها ولا ثبتت عندنا حقيتها ولا هي بلساننا ‏{‏أو تقولوا‏}‏ أي أيها العرب‏:‏ لم نكن عن دراستهم غافلين بل كنا عالمين بها، ولكنه لا يجب اتباع الكتاب إلا على المكتوب إليه فلم نتبعه، و‏{‏لو أنا‏}‏ أهلنا لما أهلوا له حتى ‏{‏أنزل علينا الكتاب‏}‏ أي جنسه أو الكتاب الذي أنزل إليهم من عند ربنا ‏{‏لكنا أهدى منهم‏}‏ أي لما لنا من الاستعداد بوفور العقل وحدة الأذهان واستقامة الأفكار واعتدال الأمزجة والإذعان للحق، ولذلك سبب عن هاتين العلتين قوله‏:‏ ‏{‏فقد جاءكم‏}‏ وذكر الفعل مدحاً لهذا القرآن وتفضيلاً وتشريفاً له على كل ما تقدمه وتنبيهاً على أن بيان هذه السورة في النهاية لأنها سورة أصول الدين ‏{‏بينة‏}‏ أي حجة ظاهرة بلسانكم ‏{‏من ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم على لسان رجل منكم تعرفون أنه أولاكم بذلك ‏{‏وهدى‏}‏ أي بيان لمن تدبره عظيم ‏{‏ورحمة‏}‏ أي إكرام لمن قبله، فكذبتم بها‏.‏

ولما قامت عليهم الحجة، حسن وقوع تحذير التقرير بقوله‏:‏ ‏{‏فمن‏}‏ أي فتسبب عن تكذيبكم أنه يقال بياناً لأنكم أظلم الناس‏:‏ من ‏{‏أظلم ممن كذب‏}‏ أي أوقع التكذيب ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه فلا أعظم من آياته، لأن الأثر على قدر المؤثر ‏{‏وصدف‏}‏ أي أعرض إعراضاً صار به كأنه في صفد أي سد عن سهولة الانقياد للدليل ‏{‏عنها‏}‏ بعد ما عرف صحتها‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ لا أحد أظلم منه، فكان الحال مقتضياً لتوقع ما يجازى به، قال‏:‏ ‏{‏سنجزي‏}‏ أي بوعد صادق لا خلف فيه، وأظهر ما أصله الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏الذين يصدفون‏}‏ أي يجددون الإعراض ولا يتوبون ‏{‏عن آياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة ‏{‏سوء العذاب‏}‏ أي الذي يسوء نفسه ‏{‏بما كانوا يصدفون *‏}‏ أي بسبب إعراضهم الذي كان عادة لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 159‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏158‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

ولما كان أسوأ السوء حقوق العذاب، وكان حقوقه بعدم قبول التوبة، فسره بقوله مهوناً له ومسهلاً بتجريد الفعل‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ أي ما ينتظرون هؤلاء المكذبون أدنى انتظار وأقربه وأيسره ‏{‏إلا أن تأتيهم‏}‏ أي حال تكذيبهم ‏{‏الملائكة‏}‏ أي بالأمر الفيصل من عذابهم كما هي عادتها في إتيانها المكذبين ‏{‏أو يأتي ربك‏}‏ أي ظهور أمر المحسن إليك أتم ظهور بجميع الآيات التي تحملها العقول وذلك يوم الجزاء ‏{‏أو يأتي‏}‏ وأبهم تهويلاً للأمر وتعظيماً فقال‏:‏ ‏{‏بعض آيات ربك‏}‏ أي أشراط الساعة التي يكون فيها ظهوره التام وإحسانه إليك الأعظم مثل دابة الأرض التي تميز الكافر من المؤمن وطلوع الشمس من مغربها المؤذن بإغلاق باب التوبة؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل»، ثم قرأ الآية‏.‏

ولما كان إتيان الملائكة- أي كلهم أمراً لا يحتمل العقول وصف عظمته، ولا بشرى للمجرمين عند رؤيته، فإنه لو وقع على صورتهم لتقطعت أوصالهم ولم يحتمله قواهم فقضي الأمر ثم لا ينظرون، وأما تجلي الرب سبحانه وعز اسمه وجلت عظمته‏.‏

فالأمر أعظم من مقالة قائل *** إن رقق البلغاء أو إن فخموا

ترك ما يترتب عليه وقال‏:‏ ‏{‏يوم يأتي‏}‏ أي يكشف ويظهر ‏{‏بعض آيات ربك‏}‏ أي المحسن إليك بالإتيان بذلك تصديقاً لك وترويعاً وتدميراً لمخالفيك ‏{‏لا ينفع نفساً‏}‏ أي كافرة ‏{‏إيمانها‏}‏ أي إذ ذاك، ولا نفساً مؤمنة كسبها الخير إذ ذاك في إيمانها المتقدم على تلك الآية بالتوبة فما وراءها، ولذلك بينه وبقوله واصفاً نفساً‏:‏ ‏{‏لم تكن‏}‏ أي الكافرة ‏{‏آمنت‏}‏ ويسر الأمر ببعض زمان القبل، ولم يكلف باستغراقه بالإيمان فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل مجيء الآية في زمن متصل بمجيئها‏.‏

ولما ذكر الكافرة، أتبعها المؤمنة فقال عاطفاً على «آمنت»‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ لم تكن المؤمنة العاصية ‏{‏كسبت‏}‏ أي من قبل ‏{‏في إيمانها‏}‏ أي السابق على مجيء الآية ‏{‏خيراً‏}‏ أي توبة، وبعبارة أخرى‏:‏ نفساً كافرة إيمانها المجدد بعد مجيء الآية، وهو معنى ‏{‏لم تكن آمنت من قبل‏}‏ أو نفساً مؤمنة كسبها الخير بعد مجيء الآية ما لم تكن كسبت في إيمانها السابق على الآية خيراً، والحاصل أنه لا يقبل عند ذلك إيمان كافر ولا توبة فاسق- كما قاله البغوي- لأن المقصود من التصديق والتوبة الإيمان بالغيب وقد فات بالآية الملجئة، فيكون فاعل الفعل المقدر في «كسبت» محذوفاً، والتقدير‏:‏ لا ينفع نفساً لم تكن آمنت من قبل، أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً إيمانها وكسبها، فالإيمان راجع إلى من لم يؤمن، والكسب راجع إلى من لم يكسب، وهو ظاهر، والتهديد بعدم نفع الإيمان عند مجيء الآية أعظم دليل على ما ذكرته من التقدير، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر إيمانها أولاً دليل على حذف كسبها من الجملة الثانية، وذكر جملتي آمنت وكسبت ثانياً دال على حذف كافرة ومؤمنة أولاً‏.‏

ولما كان هذا تهديداً- كما ترى- هائلاً، أتبعه ما هو أشد منه للتنبيه على أن أهل الإيمان سالمون من ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قل انتظروا‏}‏ أي بغاية جهدكم أيها المكذبون ‏{‏إنا منتظرون *‏}‏ بجهدنا، وستعلمون لمن تكون العاقبة‏.‏

ولما نهى عن اتباع السبل لأنها سبب التفرق عن الحق، وكان قد كرر في هذه السورة نصب الحجج وإنارة الأدلة وإزاحة الشكوك ومحو آثار الشبه، وأشرفت السورة على الانقضاء‏.‏ وكان من المعلوم قطعاً أن الحق- من حيث هو حق- شديد التأثير في إزهاق الباطل فكيف إذا كان كلام الملك الذي لا يخالف أمره ولا يخرج عن إرادته؛ اشتد استشراف النبي صلى الله عليه وسلم إلى رؤية ذلك الأثر مع ما عنده من الحرص على إسلام قومه لما طبعه الله عليه من الشفقة على جميع الخلق عموماً وعليهم خصوصاً، وإنما يكون ذلك الأثر بإيجاد هدايتهم ومحو غوايتهم، فلما ختم سبحانه بهذين التهديدين العظيمين الدالين على غشاوتهم، فإنه صلى الله عليه وسلم مما كان رجاه من هدايتهم أمر كأنه كان قد حصل، وذلك مورث للشفوق من الأسف على ما لا يدري قدره ولا يوصف خبره، فثبته سبحانه وسلاه بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين فرقوا‏}‏ أي بعد إبلاغك إياهم ‏{‏دينهم‏}‏ أي بتكذيبهم ببعض آيات الله وصدوفهم عنها وإيمانهم ببعضها ففارقوه، لأن الكفر بعضه كفر بكله، وأضيف الدين إليهم لشدة رغبتهم فيه ومقاتلتهم عليه ‏{‏وكانوا شيعاً‏}‏ كل فرقة تشايع وتشيع إمامها كالعرب الذين تحزبوا أحزاباً بالاستكثار من الأصنام، فكان في كل قطر لهم معبود أو اثنان فأكثر، وكأهل الكتاب الذين ابتدعوا في دينهم بدعاً أوصلتهم إلى تكفير بعضهم بعضاً وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، وكالمجوس الذين مزقوا دينهم باعتقاد أن الإله اثنان‏:‏ النور والظلمة، وعبدوا الأصنام والنجوم وجعلوا لكل نجم صنماً يتوسل به في زعمهم إليه ‏{‏لست منهم‏}‏ أي من حسابهم ولا من عقابهم ولا من خلق الهداية في قلوبهم ‏{‏في شيء‏}‏ وفي هذا غاية الحث على الاجتماع ونهاية التوعد على الافتراق‏.‏

ولما خفف عنه صلى الله عليه وسلم بتبرئته منهم، أسند إلى نفسه المقدس ما يحق له في إحاطة علمه وقدرته، فقال جواباً لمن يقول‏:‏ فإلى من يكون أمرهم‏؟‏‏:‏ ‏{‏إنما أمرهم‏}‏ أي في ذلك كله وفي كل ما يتعلق بهم مما لا يحصره حد ولا يحصيه عد ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه غيره، فمن شاء هداه ومن شاء أعماه، ومن شاء أهلكه ومن شاء أبقاه لأن له كمال العظمة‏.‏

ولما كان الحشر متراخياً عن ذلك كله في الرتبة وفي الزمان، لا تبلغ كنه عظمته العقول، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي والتنبيه بقوله‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ بعد استيفاء ما ضرب لهم من الآجال ‏{‏ينبئهم‏}‏ أي تنبئة عظيمة جليلة مستقصاة بعد أن يحشرهم إليه داخرين ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يفعلون *‏}‏ أي من تلك الأشياء القبيحة التي كان لهم إليها أتم داعية غير متوقفين في إصدارها على علم مع ادعاء التدين بها، والآية- مع ما تقدم من مقتضياتها- تعليل لقوله ‏{‏ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏